تاء مربوط

تاء مربوط

في مقهى تاء مربوطة هناك في كل لحظة رد فعل ضد الأناقة غير المفهومة لتناسق أعضاء وقت الفراغ ، في هذا المقهى بالذات يجب أن تستمتع بالتاء بحسب شروطها الخاصة ، هناك مكان يتسع للجميع داخل دائرة التاء المربوطة ، في وسط تلك الغمغمة غير المفهومة هناك عقول غاية في الجرأة ، والكثير من الكلمات الجسورة التي فقدت نزاهتها وصفاء نيتها ، هذا غير بعض الوجوه ذات الجمال المذهل والذي يقف بقوة في وجه منغصات الحياة اليومية ، في تاء مربوطة هناك اتصال سري بين الجالسين من خلال فتنة موجعة بالحياة وما فيها من جمال ، كل الأشياء المألوفة والواضحة بشكل فاضح تُترك خارج الباب لتذهب مع المارة في شارع الحمراء ، كل شيء يتم معالجته في تاء مربوطة وفق الإغواء الذي نسيته الإنسانية بشكل متعمد ، إغواء جمال العيش في مجال إنسان آخر لدقائق وربما لساعات ، النظرة في تاء مربوطة غير مشتبه فيها ، العالم سيبدو ناقصا إذا لم يتوفر فيه مكان تنظر فيه إلى شهوتك بعيون نظيفة وخالية من التحضير المسبق ، عليك أن تعطي فرصة للشر كي يسخر من الحياة التي تسمى سليمة ، رناد بكلماتها عن جنونها الذي لا تستخدمه وتخاف عليه من الضياع ، يد ديانا وهي في يد عبود تفرض على الحياة أن تجلس معنا على الطاولة ، حسين يزين نكتة فاضحة يقرأها من على النت بمشهد درامي هو ما يجعلني أضحك أكثر ، غادة وهي تخرج فجأة من عالم أُسِييء إغلاقه ، أحمد ينظر إلى جرحه بقلق يصعب التحدث عنه ، في تاء مربوطة لا مكان للسلوك الفظ والقاسي ، الموسيقى هناك تطلب من الناس أن يقتربوا من بعضهم أكثر للخروج من محنة اليأس بشكل جماعي ، هذا ما يحدث عادة في الأماكن التي لا شيء فيها يُشعر بالخجل من نفسه ، بل كل شيء فيها يتمتم بنعم ، يمكن التفكير في مثل هذه الأماكن في كل ما لم يحدث على أنه حدث ، كأنْ أكون جالسا في تاء مربوطة وتدخل هي من الباب ومعها الكلمات التي سأكتبها على شاهد قبري ، تدخل هي فينهار العالم خارج تاء مربوطة ولن أنسى أنا أن أستعيد منه قلمي قبل أن يُدمَّر بشكل تام ، حين نظرت إلى وجهها أحسست أنني جرح مفتوح قد وجد القاموس المناسب ، أحسست أنني قد أختفي من تاء مربوطة دون أن أترك أثراً لأنني سأكون هناك في عينيها الجميلتين ، هذا العالم البغيض مستعد دائما للإفلات من القتل لأنه يتموضع هناك في المسافة الحميمة بين شفتيها كأنه كلمة لم تُقَلْ بعدُ أو قبلة تخاف الخروج دون استئذان ، ربما سمعت لفافات التبغ في أيدي النساء تتحدث عنها ، ربما سمعت الحروف في الحبر تتفوه باسمها ، ربما كل تاء قابلتُها في حياتي لم تكن مربوطة على شكل بخار القهوة التي ترتعش من الشوق إلى اللقاء مع شفتيها ، ربما لم أفكر في أن النقطتين فوق التاء ليستا سوى نقطة للعودة ونقطة للهروب ، لابد أن أعترف بدَيني لساقيها وكيف جعلتني أفهم أن العمل على إكمال الحياة مازال جاريا ولم يكتمل بعد ، لا يمكن تصور الجمال الذي يحيط به زجاج تاء مربوطة في وجودها ، لا يمكن تصور اللغة إلا كمعشوقة وهي توفر الطريقة الوحيدة للاتصال بها ، هذا إذا كان في وسعي تفادي فهم إمكانية انقلاب اللغة وعلى نحوٍ مفاجئ إلى جسد .قليل فقط من الأماكن في هذا العالم لا تشعر فيها بأنك تخاصم نفسك ، قليل جدا من الأماكن في هذا العالم قادرة على تحريك ضميرك الجمالي ، قليل من الأماكن فقط يمكن أن نفسرها ، يمكن أن نستفيد منها ، تاء مربوطة مكان لا توجد فيه حواشٍ مسننة ، لا توجد فيه وجوه ترفع الحزن من الأرض ، لهذا كانت صورتها في كل أنحاء المقهى حتى قبل أن تدفع الباب ومعه كل وجع العالم لتدخل هي بنسخة منقحة منه ، عن ماذا تحدثنا ؟ لا يهم ، ومن يهتم بالحديث مع كل هذا الجمال إلا بسبب ضرورة أن يكون هناك حديث ، الحديث المهم هو الذي يتعلق بأشكال المقاومة التي أبديتها أمام حركتها الخطرة ، بأشكال المقاومة التي أبديتها حتى لا أجتاز الخط الفاصل بيني وبين طلاء أظافرها ، ولن أبالغ هنا في حجم النجاح الذي الذي حققته لأن طعمه أمر من طعم كل فشل عرفته ، هذا غير السخرية من نفسي التي شعرت بها بسبب الإفراط في الاعتدال الذي عرفته في تلك اللحظة ، لماذا بعض الأمور يجب أن تكون مؤجلة ؟ قد أقبل أنا وأنتم تأجيل حفل شاي ، لكن كيف يمكن قبول تأجيل الحب إلى وقت آخر ، أو تأجيل علاقة ، الحياة نفسها لن تقوى على منع نفسها من الاستدارة نحوها ، لا يمكن تأجيل النظر إلى الأشياء وهي تسيل في تاء مربوطة وتسير نحو شعرها لتتمسك به ، كيف يمكن التملص من الشعور بالغيرة من جمال الكادر الذي ظهرت فيه بيروت عند ابتسامتها ، كيف يمكن تجاهل النظام الذي تفرضه أسنانها على العالم ، كم أتمنى لو أنها عضت بها على حياتي وأعادت تركيبها وفق لمعانها ، كانت تجلس هناك أمامي كثغرة في جدار الألم ، الأثاث ، الكتب ، الأكواب ، منفضة السجائر كانت تشعر بالراحة وهي تنظر إلى جلستها غير المستقيمة ، فكرت في لحظة أن ما ينبغي فعله في حضورها هو عكس كل ما يتوقع منك ، عكس المجامل بشكل بائس ، عكس الطيب بشكل فاتر ، عكس الهادئ بشكل بارد ، كان ينبغي التهامها بلذة و بطء وشيء من العدوانية كقطعة تشيز كيك مقدمة في باي روك ، لكنّ شيئاً في عينيها قال : ليس من الضروري أن تفعل ذلك الآن ، دعني أخفف عنك وحشة العالم أولا ، دعني أرمم روحك التي تناثرت إلى قطع صغيرة وأنت تشق طريقك إلىَّ ، قالت ذلك ونهضت متجهة إلى الباب ، حين خرجت انفجر العالم بالبكاء ، وسمعت ضحكة ساد المجنونة وكلماته القاسية ” من اليوم عليك أيها الأحمق أن تعيش وسط جماعة طبيعية ” ، ساد لا يؤمن أبدا بأننا بشر وعلينا انتظار حظوظنا ، الحظ الوحيد الذي يؤمن به ساد هو توفر فرصة الحياة ، ليس على الإنسان أن ينتبه إلى عدم إسقاط شجاعته وذكائه فقط من اعتباره ، بل عليه أن ينتبه أكثر إلى عدم اسقاط قلبه وجسده من هذا الاعتبار الشخصي ، كان عليَّ في لحظة ما أن أختار بين أن تكون هي لحظة ألمٍ أو لحظة نافرة ومعزولة ، نقطة عودة أو نقطة هروب ، نظرت إليها وهي تمشي بكبرياء وجمال وأنا حائر بين نقطتي تاء مربوطة ، ثم قلت لنفسي لا تكن شديد التشاؤم ولا شديد التفاؤل عليك أن تنتظر ، أليس الانتظار هو آخر ما تبقى

محمد الترهوني

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :