الأدب النسوي وملامحه السردية والفلسفية في رواية (بانسيه) للروائية عبير العطار

الأدب النسوي وملامحه السردية والفلسفية في رواية (بانسيه) للروائية عبير العطار

دراسة نقدية تحليلية بالآلية الذرائعية /الناقدة السورية د. عبير خالد يحيي/  الجزء الثاني

التجنيس: المؤلف رواية رومانسية من الأدب النسوي بمسحة فلسفية.  

البناء الفني:

جاءت الأمور الفنية في الرواية متكاملة ومتسلسلة, ومتفوقة عن المألوف في بعضها, كالعنوان والصراع الدرامي الذي كان قام بين الخير والشر, وبين الشر والشر والخير, وبين الشر والشر, والعقدة التي جعلتها عقد متعدّدة استخدمتها الروائية لأغراض فنية أخرى.

نبدأ بتفصيل ذلك من:

العنوان:

بانسيه: وهو اسم البطلة, والكاشف لمضمون الرواية الذي سنجد أنها رواية الصوت الواحد, فلها وحدها السلطة على العمل, ولا صوت يعلو فوق صوتها, رغم كثافة الشخصيات المتواجدة في الرواية,  لكنها جميعها أصوات خافتة لا حرية لها بالتعبير عن ذاتها إلا من نافذة الشخصية البطلة, وبالقدر الذي تسمح لها به.

وبانسيه بالمعنى القاموسي : هي الزهرة الثلاثية أو زهرة الثالوث, وهي زهرة للزينة تنحدر من عائلة البنفسج, تتميز بشكلها الطريف الذي يشبه وجه الإنسان أو القطة الصغيرة, تتميز ببتلاتها الثلاث التي أخذت اسمها منها, وهي ذات ألوان متعددة, وتعد هذه الزهرة رمزًا للحكمة, ف (بانسيه) بالفرنسي تعني (التفكير) , تعيش في الغالب عامين وهي موسمية تتميّز بقوّة التحمّل لمختلف ظروف الطبيعة القاسية, وقدرتها على التشكل حسب مزاج المهجن.

ب-المقدمة أو الاستهلال :

هي عبارة عن مفهوم زمكاني, وهي بالعادة تعريف بسيط بمكان وزمان الرواية, وقد كان ذلك من عنوان الفصل( في غرفة الإنعاش),  ومن الاستهلال نستشف أننا سنكون أمام رواية تطغى عليها الشاعرية, وإن كان ذلك غير مألوف في الرواية, لكننا لا ننسى أن الكاتبة أساسًا شاعرة, ولابد للنفس الشاعرة أن تحضر بقوة  دونما إرادة من الكاتب, أو بتوظيف محترف, ليضعنا الكاتب في انطباع أولي أو في الإطار (النفسي والثقافي للبطلة), وأنا أميل إلى هذا الافتراض, لنلاحظ كيف استهلّت الكاتبة الرواية, وكيف استخدمت عبارات ك (سقف مثقوب من الحياة)(محاليل حب معلّقة) (بقايا أمل مغشي عليها) لتدلّنا على أن الحالة يائسة, أرادت الكاتبة أن تشدّنا إليها كتشويق لمعرفة من و لماذا وماذا حصل؟:

” قاومت جهدها الموت لتفتح نافذة عينيها على سقف مثقوب من الحياة, وبقايا أمل مغشي عليها من الضياع, ومحاليل حب معلقة على محاليل معدنية….”

د-التشابك السردي ( الصراع الدرامي):

هو أوسع المفاهيم لمدلولات البناء الفني.

تنظر النظرية البراغماتية للتشابك السردي بخريطة منتظمة الأبعاد والحدود, بثلاثة محاور أساسية تنطلق من قاعدة النص أو العمل السردي ( العنوان), فيتجه المحور الأوسط ( محور التوليد) عموديًّا على القاعدتين ( المقدمة والنهاية ) مارًا

بالعقدة, وهو المحور الذي يرسم مسار الأحداث من المقدمة فالزمكانية حتى العقدة (محور الحبكة), ومنها ينقلب الأداء فيه نحو الانحسار, ويسمى جزؤه العلوي ب (المحور الانحساري) حتى يدرك النهاية لمجريات الحل.

يساعد هذا المحور, المحور الثاني ( محور التكوين) المنطلق من الزاوية اليسرى لقاعدة النص, ويحمل فوق تياره جميع الشخصيات المساندة للبطل ( بانسيه,  الطبيب النفسي, سامي, ياسمين), ومشاركة كل شخصية من تلك الشخصيات للبطل هو ظهور مشهد جديد أو حادثة جديدة أو قصة جديدة ( وقد حصل ذلك بتسلسل الأحداث), حتى يتقاطع هذا المحور مع المحور التوليدي في العقدة, ليبدأ بانحسار تلك الأحداث متجهًا إلى أقصى الجهة اليمنى من النهاية .

وينطلق المحور الثالث – محور المعارض- (عائشة, نبيل… ) من الجهة اليمنى لقاعدة النص متجهًا نحو الأعلى ليتقاطع مع المحورين السابقين في العقدة, ويكمل بانحسار جميع الشخصيات المعارضة التي شاركت  في الصراع الدرامي في المثلث الأول.

وبذلك يُرسَل مثلثان ملتقيان بالرأس في نقطة الوسط (العقدة) ليشكل لدينا صراعًا دراميًّا منتظمًا وحلًّا راقيًا.

استخدمت الكاتبة الطريقة الحديثة في بناء الحدث, فيها عرضت حدث قصتها من لحظة التأزم أو العقدة, ثم تعود إلى الماضي flashback لتروي بداية القصة مستعينة ببعض التقنيات والأساليب مثل مجرى اللاشعور stream of consciousness, والذكريات Memories .

أمّا فيما يتعلّق بسردية الحدث: لقد برعت الروائية عبير العطار بالسرد الأدبي المدروس, ونوّعت السرد, واستخدمت كل أشكاله القريبة والبعيدة,  والخارجية والداخلية, كانت الراوي, ثمّ المتكلّم والمخاطب, وأعطت الاثنين حضورًا, ثم انتقلت نحو الخارج, فجعلت الغائب يسرد من داخل الرواية  ومن خارجها بضمائر الغياب( السرد المباشر), السرد من داخل الرواية بضمير المتكلّم, صاغته بوميض خلفي flashback, و بحوار داخلي ومحاكاة ذهنية stream of consciousness. و رسائل, وترجمة ذاتية ( جلسات عند الطبيب النفسي).

التدوير: استطاعت الروائية عبير العطار_ في أول عمل روائي لها_ إجادة فن التدوير الروائي, فقد نقلت السرد الداخلي من حالة اللا وعي نحو الوعي مرتين, وجعلت أحداث الرواية متماسكة بشكل دائري يكمل بعضه بعضًا…

عناصر التشابك السردي:

الموضوع:

كان الموضوع شيّقًا, وهو بؤرة براغماتيكية ستتمركز عليها الروائية عبير العطار, استراتيجية الدفاع عن حقوق المرأة, وهو حق مشروع رسمته الكاتبة كطريق رصين لأدب رصين في جميع كتاباتها القصصية سابقًا, والروائية لاحقًا.

الزمكانية:

زمن الرواية امتدّ من فترة الغزو العراقي للكويت1990, حيث سردت الكاتبة أحداث هذا الغزو ضمن إطار عائلة خير الله الشاهد التي كانت تقيم بالكويت واضطرت بعدها إلى الهرب إلى مصر حيث أقامت بالقاهرة, وانتهت الرواية تقريبًا في وقتنا الحالي, حوالي بضع سنوات من قبل الآن.

تنوّعت الأماكن بالرواية, بين الكويت والقاهرة, لندن, وادي النطرون, بيت حسن,  المشفى, القصر…

الحبكة:

بسيطة جدًا كواقع إنساني, لكن الهدف من ذلك كان واضحًا, والإشارة نحو رمزية الخطأ والصواب في قضية العلاقات بين الناس, فهي إشكالية فلسفية, وليس أمرًا عاديًّا يتخطاه المرء بعد القراءة, امرأة شابة رومانسية الطباع, جميلة الملامح, يضعها القدر في مواجهة الجهل والحقد والحسد والجشع متمثّلًا بالأخت عائشة, التي لم تتورّع هي وأخيها وجدي عن إيداع والدتهم في بيت العجزة , و تأخذ أموال العائلة وتهرب إلى كندا, بينما كانت بانسيه تحضر للدكتوراة في الهندسة البيئية في انكلترا, تفاجأ بانسيه بهذه الواقعة حال عودتها لمصر,  تبحث عن أمها و تخرجها من المأوى لتموت الأم بعد فترة وجيزة, كانت بانسيه قد تزوجت من نبيل الذي يضعها القدر معه أيضًا في مواجهة الزيف والظلم والخيانة, وهو المحامي المشهور الذي كان وحيد أبويه,  ينتظر من الزواج عزوة الأبناء, ولمّا عجزت بانسيه عن منحه الأبوة بعد أن أجهضت حملها منه بنتائج كارثية, ليتم الحكم عليها بالعقم, أخذ نبيل يسيء معاملتها حد الإهانة, لم يخفِ مغامراته وغزواته النسائية مع زبونات مكتبه, مارس عليها العنف النفسي والجسدي, يضربها ويؤذيها جسديًّا ثم يتهمها بأنها تحاول الانتحار, حاول التشكيك أكثر من مرة بقواها العقلية أمام أطباء المشفى, وهو المحامي المشهور الذي له مركز مرموق في اجتماعات منظمة حقوق الإنسان, ويشاء القدر أن يرحمها منه, بعد زواج استمر 10 سنوات, يموت بتحطم طائرة كان عائدًا بها من باريس, ينقل لها الخبر أخوها وجدي وأختها عائشة التي عادت من كندا بلا تغيّر يذكر سوى ازدياد جشعها, تسامحها بانسيه على مضض, تقيم معها في القصر الذي خلّفه لها نبيل,  كانت بانسيه خلال غياب نبيل في سفرياته قد تعرّفت على ياسمين الفنانة التشكيلية في أحد المعارض التشكلية في (بيت حسن) بمنطقة الحسين, ربطتهما صداقة عميقة, وفي إحدى لقاءاتهما في أحد المقاهي, التقت بانسيه مع الممثل وائل عطية الذي كان زميلها في الجامعة, الذي جرّها بالخديعة (يهاتفها مدّعيًا المرض الشديد) تزوره في بيته, يعانقها, يحاول إغواءها, تستنكر بشدة تصرفه, يجيبها أن كل النساء متشابهات وكلهن لديهن الاستعداد للخيانة, هذا العناق تحاسب نفسها عليه كثيرًا وتعتبره خيانة لنبيل, بينما نبيل له صولاته وجولاته في خيانتها… بعد موت نبيل تدخل في حالة كآبة, وتحاول الانتحار فعلًا بتناول كمية كبيرة من المهدئات, تراجع طبيبًا نفسيًّا ينصحها بالسفر للراحة, تسافر لوادي النطرون مع أختها عائشة, وهناك تلتقي بسامي, تنشأ بينهما علاقة حب قوية تنتهي بالزواج, بعد أن كانت قد تجاوزت سن الأربعين, لكنه ينجح بشدّها إلى الحياة, تعاودها الرغبة العارمة بالأمومة, تعمل بنصيحة ياسمين, وتراجع طبيب نسائي ينصحها بإجراء عملية بسيطة لإزالة الالتصاقات الرحمية التي نتجت عن الإجهاض والنزيف القديم, يعود رحمها حيًّا مروّى, ويمتلئ بجنين, طفلة عندما تصرخ صرختها الأولى تغادر روحُ بانسيه إلى بارئها !

العقدة:

اللافت أن الكاتبة لم تكتفِ بعقدة واحدة! بل رسمت خارطة السرد على أكثر من حبكة قادتها لأكثر من عقدة, تبدأ منها السرد الدرامي, حيث أجرت الصراع  على ثلاثة مستويات:

المستوى الأول  بين الخير والشر:

(عائشة) أخت البطلة( بانسيه), هي رمز إنساني سلبي, يقرُّ التنصّل عن العلاقات الإنسانية ببديل المصلحة, حين يُنتزَع الوعي والثقافة, ويلبس جلباب التخلّف والأنانية, فينتج هذا الصراع, أن تودع أمّها بيت المسنين, وهذا الصراع قوامه الخير المتمثّل بالبطلة ( بانسيه) و الشر المتمثّل ب( عائشة), وقد حرّكت خيوطه الدرامية حتى موت نبيل…

أما المستوى الثاني من الصراع فهو بين الشر والشر والخير: وقد تمثّل بصراعات أدارت دفّته الروائية عبير العطار بحرفنة متناهية, ومُثّل ذلك برسم أبعاد شخصياتها بخطوط فلسفية, بقلم المصير فوق مسرح الديمومة, أبطال هذا الصراع هم ( نبيل) زوج (بانسيه) خان زوجته مرارًا, وهي تعلم ذلك, لكن (بانسيه) حتى وإن استغرقتها موجات الأنوثة بمقابلة شخص آخر في شقته, وسمحت لنفسها بالمعانقة, اعتبرت ذلك محاولة للخيانة, ندمت عليها جدًّا, وعادلت كفتها بالحنين والتوق إلى حضن زوجها ومسامحته, لخطأ لم يقع, قابل هذا الصراع الغير منصف والراجح نحو الكفة الأنثوية.

المستوى الثالث للصراع هو بين الشر والشر:

المتمثّل بالزوج نبيل والأخت عائشة, الأول بانتهاك حرمة العلاقة الزوجية المقدّسة بالخيانة, وعائشة أيضًا التي اخترقت علاقة الأمومة المقدّسة بالخيانة, فأودعت أمها دار المسنين بعد أن أخذت المال, نقطة فلسفية راقية أدارتها الكاتبة بعبقرية سردية ملموسة.

الانفراج والنهاية:

كان الانفراج المتعدد الأغراض, يفضي بنهاية, تقذفها الروائية بعبقرية على وعي المتلقي, فهي لم تعطِ نهاية واحدة, بل ألمحت لواحدة, وكلّفت المتلقي بأخريات قد يضعها هو بعمقه الثقافي الذي أشارت لها هي بمقولة فلسفية بسطور:

” حين ترغمك الحياة على البقاء وأنت تنشد الاستغناء، فإنها لن تمنحك فرصة، لكن حين يشتهيك الموت، فأنت مسيّر إليه دون إرادة مهما تقتَ إلى الحياة.”

ماتت بانسيه وهي تكمل إنجاز حلمها الذي أصبح حقيقة لم ترَها، باغتها الموت عندما كانت تنشد الحياة، بينما عاندتها الحياة حينما تاقت إلى الموت مرتين، كخلاص من عذاباتها. لكن الطفلة هي استمرار للحياة على كل الأحوال.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :