المشوار الأخير

المشوار الأخير

بقلم :: إنتصار بوراوى

إلى روح أخى بشير

في أزقة الصابري تناثرت العاب طفولته ، و على مدارج شوارعها انطلقت ضحكاته، وعلى رمال شاطىء جليانة،كان يحلو له اللعب والسباحة في بحره الذى يعانق وسط المدينة الضاج بالحياة في اخر مشوار لها معه أسهب كثيراً في الحديث عن طفولته، و سرح بنظراته بعيدا وهو يستذكر طفولته ،رأت في عينيه شارع دكاكين حميد وضحكة عمتها ياسمينة حين كانت تروى القصص عن شيوخ قبيلة زوجها التى لا تتفق الا لتختلف ، وحكايات ذاكرتها المتوقدة عن مشاغبات تلاميذها في مدرسة الاميرة ،وأوامر زوجها التى  لا تنتهى وعشق ابنتها للحليب ومناغاتها له بصوت يجعلها موضع لتندر العمة  وضحكاتنا وحكايات ذاكرة عمتها حليمة المزدحمة بروائح الماضى عن التدريس في زمنه الجميل والخوجة حميدة وتلميذاتها الهادئات المهذبات الأنيقات على مقاس فتيات عقد الزمن الجميل . تقافزت من عينيه النجلاوين صور شوارع الصابري وشارع العقيب وشارع قصر حمد ،وقفزات مراهقته في البركة ومدرسة طارق بن زياد ، ومسيرة عمله التى كانت ترتطم دائماً بروحه الوثابة التى لاتعرف المهادنة،فتنسحب بعزة نفس من كل طريق لا تروقه ، ولا تلائم ما يعج في رأسه من مثاليات تتساقط على صخرة الواقع، كانت دائماً تحاول ان تقنعه بأن يكون اكثر مرونة مع الواقع ،والمحيط كى لا يصطدم بحواجز الطريق ولكنه كما في كل عمره كان ولايأبه بآراء الاخرين ولا يستمع الا لما تمليه عليه قناعاته التى حملته في سنوات ماضية الى أقصى الغرب الليبى بحثا عن تحقيق أحلامه التى لم تتسع لها مدينته ،ولكن أتون الحرب المفاجئة جعله يتخلى عن أحلامه ويعود لمدينته من جديد ليبدأ طريق الحلم في مدينة الأحلام المعلقةهو الرقيق كنسمة صيف ،الوديع في وطن الذئاب ، الذى يرسم أحلامه في نهاية كل اسبوع من فصل الصيف على شاطئ توكرة ودريانة، تملت في وجهه القمحى الأسمر وهو يشير بيده الى منطقة تو كرة المستلقية بجسمها الفاتن الجميل بين الجبل والبحر، وقال لها بهدوء:احببت تو كرة اكثر من دريانة انظرى لطريقة حياتهم ظرى لطريقة حياتهم هنا …هادئة وبسيطة وسط كل هذه الطبيعة الخلابة نظرت الى وجهه ولم تجبه صمتت مستغربة من تغير رأيه بعد عام فقط من نقاشهما حول عرض شراء احد البيوت بمنطقة بعيدة عن المدينة ،ولكنها ابتسمت سعيدة لانه اخيراً عدل عن رأيه  دل عن القديم أوقف سيارته بجانب استراحة “الحيطة” و قال لها سننزل في هذه الاستراحة قليلا للأكل قبل مواصلة الطريق ..كانهناك م  ارواد قليلين في المطعم الذى يرتاده كل من يمر بالطريق الساحلي ، سألها هل تريدين طبق غذاء ام سندويتش؟أجابته :أريد همبورغر ..ابتسم قائلا :كالعادة لا تملين من الهمبورغر                      ساد  بينهما الصمت في طريق عودتهما، فيما كان صوت احمد فكرون يصدح بأغنية (النورس) والتلال والجبال يحفان  الطريق الساحلى الطويل والبحر يغازل باقدامه سفح الجبل الأشم ،اخرجت هاتفها النقال وفتحت كاميرا الفيديو لتسجل مناظر الطبيعة الخلابة المتسارعة على إيقاع قيادة السيارة، لم يتكلم كى لا يقطع انسجامها بالتصوير لم تكن تعلم بأنها المرة الاخيرة لجلوسها معه في السيارة التى سترحل هى أيضاً معه الى حيث لا عودة ولا رجعة، سيارته التى كانت رفيقته لثمانى سنوات ،رفيقة كل اللحظات والأوقات الحلوة والمرة تخلت عنه وخذلته وسلمته للموت الذى فغر فاه ملتهم أياه في ومضة سريعة من الزمن ككابوس غير قابل للتصديق بعد أسبوع من مشوارها معه لا الارض ولا السماء اتسعت لأحلامه، أحلامه التى ضاقت بها المدينة، فأرد ته علي ارضها غارقا في دماءه، كم أسهبت بالكلمات التى تلتها على مسامعه، كى يهدأ وينتظر ولكنه بحمية الجموح لم يبالي بكلماتها وامتطى أحلامه مسرعا نحو قدره الحزين ,  ليأتى الخبر في عتمة منتصف الليل وينزل  كالصاعقة على رأسها ، لوهلة لم تستوعب الكلمة التى ينطقها الجميع حولها  ،عقلها توقف عن استيعاب معنى كلمة “توفى” وحين دخلت زوجة أخيها وبناتها باكيات ونطقن بتلك الكلمة  طلبت منهن أن يصمتن  وقالت :”بأن ذلك غير صحيح أبدا ، خبر كاذب ، غير صحيح” ولكن بكاؤهن الهستيرى جعلها تتأكد بأن الخبر حقيقى ،انطبق العالم في ناظريها بلون السواد فوق سواد الليل البهيم ،وصرخت منادية باسمه في عتمة الليل ،غير مصدقة الأصوات المتعالية لاحاديث رجال العائلة الذين تجمعوا خارج البيت للتحضير للجنازة في الصباح ، مضت مسرعة إلى أخيها الأصغر وسألته:قل لى بأن هذا الخبر كاذب وانه موجود حى بالمستشفى كما أخبرتنى ،قل لى بأن الخبر غير صحيح ، تهاطلت الدموع من عيونه وخرج من أمامها مسرعا، كان رأسها يلف ويدور ومخها توقف عن الفهم ،قضت الليلة وهى تنادى اسمه في عتمة الليل فيما صوت نواح النساء يتعالى مع صوت ترديد مناداتها لاسمه الذى شق سكون الليل البهيم                           بعد ثلاث أسابيع وفي مثل نفس اليوم و الساعة التى حدث فيه الحادث ذهبت تحوم حول المكان الذي شهد قدر النهاية،رياح الشتاء الباردة تلفح وجهها،الحياة تضج بضحكات المارة وضجيج السيارات والعيون المشاغبة وأضواء المحلات والأغاني الصادحة من المقاهي والمطاعم،الحياة تسير باعتيادية ،فكيف لا يتوقف الزمن والبشر وحركة الحياة بعد ان لم يعد موجود فيها ،اى حياة مؤذية وقاسية تلك التى يختفي فيها الأشخاص من الوجود وتمضى في مسارها الطبيعى ، وكأنها ترى سيارته الكيا الزرقاء تنهب الارض مسرعة، رأت طيفه يحوطها في المكان يخترق الضجيج ،يلامس روحها ، هو الان نائم تحت تراب الارض، فيماتلفح وجهها رياح الشتاء الباردة ،ويتهاطل المطر بغزارة فيرتوى بمياه الأمطار ، أصابتها القشعريرة وهى تتخيل الأمطار تهطل على قبره ، وحيدا تحت تراب الموت ،بعيدا عن غرفته الدافئة التى غدت معتمة، مجللة بالصمت والهدوء، وحيدا تحت تراب الارض ، فيما هى  دافئة في بيتها مع أسرتها ،تضح بالحياة تقرأوتكتب وتأكل وتحكى و جزء من روحها نائم تحت تراب الارض

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :