في مسألة تفكيك النموذج المحافظ للمجتمع العربي الليبي

في مسألة تفكيك النموذج المحافظ للمجتمع العربي الليبي

د : محمد غرس الله

الحرب الصامتة التي لم تتوقف:أن عمليات تفكيك النموذج المحافظ للمجتمع العربي الليبي – التي يتم القيام بها، ونرى ممارسة الحرب عليه وعلى قيمه – لا تتم بمعنى وطريقة معرفية، تعطي فرصة لتطوير هذا النموذج، من داخل منظومته القيمية كمتطلب من متطلبات تطوير الذات، بل تستند لنتائج ومخاض المجتمعات الأوروبية، وتصوير ضرورة أن نسلك نفس الطريق حتى نحقق التطوير، إما بالتأثر أو بالتخطيط المسبق.فالنقد الذاتي الضرورة لأي مجتمع يقع في سياقات وحبائل اللبررة (من الليبرالية) التي صارت تتبناها منظمات وبعض الكتاب، وتقوم به مجموعات مؤسسة على فكرة تجريم الواقع والقيم والتراث وأثر العامل الديني، فعملية التفكيك هذه تتم بطريقة مؤدلجة ليبرالياً، أصيبت بعلة فكرة الحداثة التي أنتجتها المنظومة القيمية الغربية، سوى تأثراً، أو إنسياق مع مؤسسات أوروبية.

فعمليات تفكيك النموذج المحافظ العربي الليبي، طالت المناحي الأساسية للحياة، تم ترتيب خطواتها على خطوة وأثر إسقاط الدولة بعدد 27 الف غارة وقصف صاروخي، وبتحالف 40 دولة بقيادة (حلف الناتو)، بالتوازي مع عملية اعلامية وسياسية ضخمة ودولية، لتجريم الواقع الليبي، وتسفيه وجود الدولة برمتها، وتتفيه الوجود السياسي وأهليته، ومن جهة أخرى إتجه نحو تجريم القيم وتصويرها قيد، وتكسير وحدة ارادة البلاد. بتظهير المناطقية والقبلية والشعوبية، وتركز كله على فكرة التشكيك في وجود الدولة والشعب والمجتمع وتاريخه كله – هكذا حزمة واحدة تم دلقها في اسماع وابصار الشعب العربي الليبي. ففي المراحل الأولى تم قصف العصب الإخلاقي للمجتمع ببث إشاعة المغتصبات بشكل جماعي وتم رفع عيار الفكرة إعلامياً وسياسياً، مصحوبة بتفاعلات الحرب الداخلية التي تمت تغذيتها بشكل مقصود لتقسم ظهر الإنسجام الإجتماعي، وتعطي تصور سيئ عن الشخصية الليبية، وفي مرحلة لاحقة، بدأت عملية تفكيك هذا النموذج الليبي المحافظ، بنشر أخبار متفرقة وتضخيمها حول الفساد الإخلاقي، بالتوازي مع عمليات مصاحبة داخل بنية المجتمع ركزت على تجريم الأبوية الأُسرية، ونشر فكرة النسوية ليس من منظور حقوق المراءة وفق الشريعة الإسلامية، بل من وجهة نظر ليبرالية (لبررة القيم)، متخذين مسارات متنوعة في الموضوع والإتجاه.

هذا التفكيك مكن اللاعبين من التغلغل في مفاصل المجتمع العربي الليبي، بدأ سياسياً، لكنه بخطط منظمة، توغل نحو الوحدة الإجتماعية، وظهرت عملية التفيت الداخلي، عن طريق تظهير صور سياسية للقبائل، والمجالس العليا، والمناطقية، بل وزرعوا فكرة تعدد اللغات، وضغطوا ليصدر بها مراسيم رسمية، وتتوازى معها عملية تفكيك وحدة المجتمع القيمية، بنشر فكرة الفتاوي السياسية التي تجرم قطاعات من المجتمع وتصور أن علاقة المجتمع بالدين علاقة ملتبسة، وتجعل ذلك قضية عامة.

وهكذا، طال التفكيك كل المناحي والجوانب، على الأسماع والأشهاد، وبالمجاهرة، فالمجتمع العربي الليبي المحافظ قيمياً في السلوك العام، هو في أصله محافظ وطنياً وعربياً إسلامياً دولة ومجتمع، موحد في مسيرته التاريخية، التي تشدها القيم الإجتماعية التي تبدو موحدة الفكرة والاصل والمنطلق، موحدة حتى في تنوعها الجغرافي والقبلي.

لذا بالنظر لما يجري، يتطلب الواقع الليبي اليوم تفرغ الباحثين والمفكرين – وهم طبقة عريضة – والنظر والبحث وتقديم الطروحات الفكرية النقدية من ذات منظومة القيم، والبحث وسبر غور الحرب الشعواء الصامتة على قيم المجتمع المحافظ بطبعه الإجتماعي والوسطي الديني.

شهر رمضان ما بين (الاستراحة، والنجع)

ان عملية تفكيك النموذج المحافظ للمجتمع الليبي التي تتم قسرياً تحت وطأة الظروف السيئة الناتج عن إسقاط الدولة ومنع قيامه، لا تتم من داخل المنظومة القيمة للمجتمع، ولا هو مرتبط بمخاضه الداخلي وتطوراته، بل هو عملية تدخل قصرية، تأخذ أشكال متأثرة بمخاض مجتمعات اخرى، فالعمليات القصرية التي تعبر عن الاورومركزية، غريبة عن دين البلاد وقيمها ومسيرتها التاريخية، ولا علاقة لها بمجتمع عربي إسلامي، وعمليات التدخل التنظيمية السياسية التي تأخذ شكل (السلفية)، ليست من المخاض المذهبي للبلاد، ولا علاقة لها بمسيرتها التاريخية، وانما هي قادمة من (المخاض الخليجي) وخاصة السعودي و(عقلية نجد) بكبستها وعقالها ولكنتها، حتى في رواية تلاوة القرأن الكريم، تعمل على توطين النموذج النجدي ومظاهره، على حساب مظاهر المجتمع العربي الليبي وسماته – مسنودة بضخ إعلامي عالي، وهي تعد من تجليات مشروع (نادي سفاري) ، ولا علاقة لها بمخاض مجتمع عربي ليبي مالكي، مغاربي، يواجه الهجمات البيزنطية و الكاثوليكية الأوروبية، في كل دورة تاريخية.وأمام هذا الوضع، فإن متطلبات تفكيك النموذج المحافظ للمجتمع الليبي يتوجب أن تنطلق من تراث البلاد والمجتمع، ليكون لها جذورها تمتح من المعرفة الاجتماعية ومسيرة البقاء والمقاومة بمعناها الفكري والثقافي.

فهذا التراث العربي الليبي جذوره ضاربة في أعماق المجتمع وأعماق تاريخه، تراث، وفلكلور، وهي تعبير عن مسيرة تاريخية بمراكزها الحضارية من زويلة وغدامس وزاوية ابوماضي، والزاوية الاسمرية، والسنوسية العريضة المبثوثة على اتساع الجغرافيا العربي الليبية، ومراكزها الاباظية (العزابة) العريقة المتجذرة بجدارة في التاريخ العربي الليبي، والمنسجمة بمعنى الكلمة مع محيطها المالكي الصوفي.إننا إعلاميا يمكن لنا ان نلاحظ الجبهتين، في مجال القيم والفلكلور كمعبر عن المواجهة المحتدمة بين نموذج التفكيك المستورد والذي ينشر قضايا النسوية، والحرب على الابوية الاسرية، ويكتب التاريخ الليبي بطريقة جديدة، ويقدمها كمسلسلات رمضانية تريد تغيير القراءة الوطنية العربية للتاريخ، وهي نفسها لها سياقها وتنوع شخوصها، ومن جهة اخرى الحالة الشعبية البدوية الاعلامية التي تركز على الخيمة والابل والخيل والقيم العربية الليبية، في الحشمة و الجود والكرم والشهامة، وتوقير الكبير واحترام المحارم، والامهات، وتقدم وجبات رمضانية في هذا المجال، وهي لها جمهورها ومتتبعيها في القاعدة العريضة للمجتمع.هذه المواجهة، ليست فقط في مجال اللحن والفلكلور، بل في الكلمة، والصورة، والدراما – بما فيها التاريخية المحسوبة – وسط زحمة سيطرة السمعي بصري، ولها من ناحية اخرى كتابها ومعدي برامجها ومقدميها، الذين يكتبون عنها ولها مشروعه الشعوبي الذي يسيطر على شاشات بعض القنوات التلفزيونية الليبية، ومقاومة هذا التفكيك لم تتمظهر لتخرج اقلام تتصدر المشهد الثقافي، يمكن لها ان تقود المعركة الفكرية بوضوح أكثر.

إذا ثمة مواجهة محتدمة اليوم، على هذا النموذج المحافظ العربي الليبي، وهي في تنوع تصورات، منها كنموذج: صورة مواجهة بين ثقافة الإستراحة، وثقافة النجع، فالإستراحة لها اخلاقها وموضوعها، ومقتنياتها وما يستهلك فيها، ومن يأتي إليها، وماذا يجلب لها، وماذا يُفعل فيها، والنجع له عالمه، وموضوعه، ومقتنياته، وله أهله، وقيمهم، وسلوكهم وإنشغالاتهم، وعلى المفكرين الابتعاد عن محاولات تفكيك ا لنموذج المحافظ للمجتمع العربي الليبي على سياق هذه الثنائية، إما هذه او تلك، فثمة حاجة اليوم لتعميق فكرة التطوير من داخل منظومة المجتمع ومخاضه، وليس بنقل نموذج مستورد.ومهما كانت محاولات نقل المجتمع العربي الليبي (من النجع إلى الإستراحة) – سوى بقصد او كتطور طبيعي من تطورات الحياة – ستبقى الذهنية الاجتماعية بثقافتها لها موقفها القيمي والسلوكي – دفاع ذاتي ولو في صورة حنين – مما يجري حتى وهي تنزلق للعالم الجديد (تعبر عنه الإستراحة) الذي فرضته ظروف، ووقع تحت سطوتها وتسيدها المجتمع، بمساعدة وسطوة الألة الاعلامية السمعية البصرية ومن ورائها، سيبقى سؤال وأحقية القدرة على مقاومة عمليات التفكيك الغير منطلقة من مخاض المجتمع وعمقه، مطروحاً ينتظر من يجيب عليه ويسبر غوره، ويفتح موضوعه للنقاش العام.

(يتبع 3)

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :