قصة الأم نادية مع ابنها الكفيف مختار

قصة الأم نادية مع ابنها الكفيف مختار

فسانيا : عبدالمنعم الجهيمي.

ونحن نجول المدينة نبحث عن قصصها وخباياها التقينا السيدة نادية، التي حملت نفسا عظيمة وروحا محبة، فاضت لتشمل كل من حولها، للوهلة الأولى تظن أنها سيدة عادية تعيش في سبها تلاقي ما تلاقيه نساء المدينة من نزق العيش وتلك التفاصيل المملة، ولكن ما إن تمعن النظر وتقترب أكثر حتى تلحظ أن هناك شيئا مختلفا في هذه الشخصية، وهو ما دفعنا للاقتراب ونقل هذه الصورة عبر سلسلة قصص فسانيا  

لاتختلف السيدة نادية عن غيرها من الأمهات، فعند مشاهدتك لها ستلحظ ذات الاهتمام الذي توليه الأمهات بأطفالهن، وستلحظ ذات الحنان وذات الود، ولكن سيظهر لك أن نادية ليست كباقي الأمهات عندما تعرف أنها تحتضن طفلا كفيفا تجابه به ولأجله الزمن والظروف والمجتمع، نعم نادية أم لطفل كفيف وقفت معه ليكبر ويواصل دراسته ويتفوق فيها، رغم كل الإعاقات والمعوقات.

في منزلها تجلس على أريكة وسط البيت، وتحتضن ابنها بمحبة غامرة، يشعر بها كل من يرى الأم وطفلها، ولعل مختار وهو اسم الطفل صار يشعر بوجود أمه دون أن تتحدث، قد يُخيل لك أنه يشاهدها، فهو يتبع حركتها في أرجاء المكان كما لوكان يراها رأي العين، غير أن هذا يعد طبيعيا في سياق الطفل الذي تربى لصيقا بوالدته، فلا غرابة في أن يشعر بوجودها دوما.

تقول نادية وهي تمسك بيدي طفلها مختار، إن ابني ولد بمشاكل بصرية، ولم ندرك ذلك في البداية ولكن بعد أشهر علمنا أنه يعاني مشاكل في النظر وبدأنا رحلة العلاج الطويلة والمضنية، تقول كان يرى ولكنه ببعض الضعف، وسننتظر لسنوات قبل أن يتعرض لحادثة أفقدته البصر كليا، لكنني كنت أحمل أملا يتجدد كل يوم بأنه سيكتسب بصره ويرى النور مجددا.

في أحد الأيام بينما كان يلعب في فناء المنزل تعرض لإصابة في عينيه، وفقد بصره كليا، كانت تلك أصعب اللحظات عليّ كأم، صار مختار يصيح ويطلب منا تشغيل الضوء، ظنا منه أن مصابيح البيت مطفأة أو أن الكهرباء انقطعت، كنت أجهش بالبكاء دون إرادة مني وأنا أراه يبحث عن النور ولا يجده، ولا يفهم لم صار كفيفا، كانت هذه الأوقات الأشد صعوبة والأكثر قساوة، ولعل أي أم ستشعر بذات الحزن إذا ما رأت طفلها يعيش هذه المأساة.

تتكئ نادية على مسند الكرسي الذي تجلس عليه وتتنهد بكل حزن، وتقول من ذلك اليوم ونحن نعرف طريق الأطباء والعيادات، وصرفت كل ما أملك في سبيل علاجه ليرى النور أو بعضه، كان كل من حولي يسعون لقطع الأمل من شفائه وبالتالي تقبل الوضع كما هو، ولكنني كنت مصرة على أن يسير مختار في العلاج.

لم أتقبل فكرة أن يكون ابني كفيفا، رغم أنه تقبل ذلك بعد سنوات، وصار هو من يريد أن يزيح عني عبء تلك الفكرة، في أحد الأيام لا أدري كيف شعر بأنني أبكي حرقة عليه ويأسا من خلاصه وخلاصي، اقترب مني ومسح دمعتي وقال أمي لا تحزني فأنا سعيد بما أنا فيه ولا أريد أن أبصر، حضنته باكية ولكنني شعرت ببعض الراحة في أنه صار أكثر تقبلا واستيعابا لوضعه.

لكن المجتمع من حولي كان الأكثر قساوة من إعاقة مختار، فأفراد من العائلة كانوا يتعمدون تذكيري بوضعه، مختار عادة يحاول ملامسة كل من يحدثه فهو طفل ولم يتعود بعد على التخاطب المباشر مع شخص لا يراه، ففي العادة يحاول ملامسة من يحدثونه وتحسسهم، وأغلب من في العائلة والجيران كانوا يتضايقون من ذلك، وكانت ردود أفعالهم غير محسوبة، فبعضهم يصيح بصوت عالٍ، وبعضهم يطلب مني التدخل بشكل فظ، ناهيك عن الكثيرين ممن كانوا يطلبون مني عدم اصطحابه لمناسبات العائلة، كانوا يعتقدون بأنه طالما لا يرى فلم أُصر على اصطحابه، ولكنني كنت عينا لمختار، فدائما ما أهمس له بمكونات المشهد أمامه، فأخبره بشكل المكان الذي نحن فيه وألبسة الناس وعن كل حركة وسكنة في المكان، حتى صار مختار يرى العالم من خلال ما أسرده له عن تفاصيل كل مكان نزوره.

واجهتني معضلة المدرسة، فمختار لن يستطيع الالتحاق بالمدرسة العادية فهو يحتاج لنوع خاص من التعليم يعتمد على السمع بشكل أكبر، كنت أجول مدارس المدينة رغبة في العثور على معلمة تستطيع أن تبدأ مشوار التعليم مع ابني بروح محبة، اهتديت أخيرا لمدرسة في حي قريب، دخلت للمديرة وشرحت لها وضع مختار، فقالت اذهبي للمعلمات وإن وجدتِ من تتكفل بتعليمه فنحن معك.

صعدت للفصول الدراسية في الطابق الثاني، كنت أجول بين الممرات والقاعات وأتمعن في وجوه المعلمات، حتى لمحت إحداهن لم أعرف لم ارتحت لها وأحسست أنني سأجد ضالتي عندها، وكان حدسي في مكانه حين أخبرتها وافقت على البدء بتعليمه ومتابعته، وهنا بدأت مرحلة تعليم مختار.

كان ولدي سريع البديهة وقوي الحفيظة ولا يزال، كنت أذهب معه كل يوم للمدرسة وأنتظر نهاية الدوام لنرجع سويا، ونبدأ مراجعة الدروس وتسميعها، كان مختار سعيدا ببدء تفاصيل جديدة في حياته، وبسرعة صار يحفظ السور القرآنية والأناشيد وجداول الضرب وعمليات القسمة والطرح والجمع، حتى إنه صار يحفظ الكتب المنهجية بشكل سريع، وهو ما شجعني أن أدخل به لإحدى محاضر تحفيظ القرآن الكريم، والذي برع فيه وقضى فيه شوطا كبيرا قياسا بالوقت وبإعاقته وعمره.

كان القرآن الكريم يبعث الطمأنينة في نفسي ويريحني فقررت أن أنضم معه في ذات المحضرة لحفظ القرآن، فصرنا نذهب سويا للمسجد ونعود بعد ساعات، وفي طريق عودتنا نستمتع بمراجعة ماحفظناه، وأحيانا يستمتع هو بسؤالي عن تفاصيل الطريق وما يحدث فيها، أخبره عن السيارات المارة وعن الناس وعن المنازل، حتى حفظ كل تلك التفاصيل وصار يعرف الطريق وكأنه يشاهدها.

مع مرور السنوات وُفق مختار في دراسته، وصار يحقق التراتيب الأولى في فصله الدراسي، وصار محبوبا أكثر لمعلماته وزملائه في الفصل والمدرسة، وصرتُ لا أجاريه في سرعة الحفظ وقوة الإرادة، كان كل هذا يسير في خط واحد مع محاولات العلاج التي لم تنتهِ، والتي كان يتجدد فيها الأمل بأن يستعيد بصره ولو لدرجات ما. تغيرت كل تفاصيل حياتنا في المنزل لتتواءم مع وضع مختار، فأنا صرت أحب الحليب بالكاكاو كما يحبه مختار، أجلس معه لساعات في فناء المنزل لشرب الكاكاو وتبادل الحديث، وأسعد حين أراه يسير في المنزل بدون أن يستعين بي، بعد أن رتبنا كل التفاصيل وتركناها كما حفظها وتعودها، أحب ولدي العصافير فأحضرت له مجموعة صار يحبها ويسميها ويلعب معها كل يوم وفي أوقات مختلفة.

حتى التلفاز كان يحب سماع البرامج الوثائقية عن عالم الحيوان، أجلس بجانبه وأنقل له صورة التقارير والأفلام الوثائقية، استفدت كثيرا منها أشعر أنني كنت بحاجة لكل هذا الكم من المعلومات التي أسمعها وأنقلها له وأشرحها ببساطة، ناهيك عن حبه للقراءة التي جعلتي أقرأ له عشرات الكتب فصرت قارئة نهمة وبشغف. حتى في مجتمع العائلة والجيران صاروا أكثر اهتماما بمختار وقصته، خاصة مع تفوقه ونيله تراتيب متقدمة، حتى الأمهات اللواتي كن مثلي ولديهن أبناء يعانون مشاكل صحية تشجعن لتقديم دعم أكبر لأبنائهن، لم أكن أسعى في يوم إلى أن تكون مثالا لأحدهم، أنا أُم وما أفعله أشعر أنه من طبيعة الأم، لا تكلف فيه ولا ادعاء ولا مزايدة، أحببت ولدي وأحببت أن أراه بخير وكفى.

كلمات السيدة نادية تزامنت مع اتصال جاءها يبشرها بقرب عملية جراحية جديدة قد تنجح في إعادة البصر لطفلها مختار، نظرت بكل محبة لابنها واحتضنته، كان هذا آخر مشهد لنا معها، وتركناها مع طفلها والسؤال يدور في خلدنا هل تستطيع كل الأمهات تقبل إعاقة أبنائهن وتقديم الدعم لهم كما تفعل نادية؟.

هذا التساؤل طبيعي خاصة في مجتمعنا الذي ينظر للإعاقة على أنها عيب يجب أن يُخْفى، وخاصة مع تعدد القصص التي نسمعها عن أطفال من ذوي الإعاقة وكيف يحرص أهلهم على عدم إظهارهم للمجتمع، كانت نادية وابنها مختار مثالا واضحا للإصرار والإيمان والرضا، وأيضا الإرادة التي واجهت المجتمع ونجحت في خلق قيمة جديدة. تركنا السيدة نادية وعدنا نجول المدينة بحثا عن قصص تلمس الإنسان فينا وتظهر جانبا قد يكون مشرقا من مدينتنا.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :