أصداء الطفولة “كيف تشكل صدمات الأمس شخصيات اليوم؟”

أصداء الطفولة “كيف تشكل صدمات الأمس شخصيات اليوم؟”

تقرير : بية فتحي.

الطفولة هي المرحلة الأكثر حساسية في حياة الإنسان ، تظل تجاربها ومواقفها  حجر الزاوية الأول في تشكيل شخصياتنا وسلوكياتنا ، ذكرياتها محفورة في أعماق النفس وتبقى هي المرحلة الأكثر تأثيرا  بالفرد .

فآثار  الصدمات النفسية التي قد يتعرض لها الشخص في مراحل مبكرة من حياته تنعكس بوضوح على خياراته وقراراته في المستقبل.

تُظهر دراسات نفسية متعددة أن السنوات الأولى من عمر الإنسان لا تمرّ دون أثر، وأن التجارب التي يتعرض لها الطفل، خاصة تلك المرتبطة بالأذى النفسي أو الإهمال العاطفي، تظل حاضرة في تكوينه النفسي والسلوكي.

وقد أكدت أبحاث متخصصة أن الصدمة في الطفولة لا ترتبط فقط بالعنف المباشر، بل تشمل أيضًا التوتر الأسري، غياب الاحتواء، التمييز، أو الصمت تجاه الألم، وهي عوامل تؤثر في قدرة الطفل على النمو العاطفي السليم.

وبيّن مختصون أن آثار هذه التجارب لا تظهر بالضرورة في سنّ مبكرة، لكنها قد تعود لاحقًا على هيئة مشكلات في التواصل، اضطرابات في العلاقات، أو أنماط متكررة من الانسحاب والعجز عن بناء الثقة.

تسلّط فسانيا، من خلال هذا التقرير، الضوء على عدد من التجارب الحقيقية التي تكشف كيف يمكن لصدمات الطفولة أن تستمر في التأثير على حياة البالغين.

تجربة الأم المعنفة

تحدثت إحدى الأمهات عن تجربتها القاسية، حيث قوبلت بمعاملة قاسية من عائلتها، مما أثر سلبًا على ثقتها بنفسها ، على الرغم من محاولاتها أن تكون أمًا جيدة، إلا أن ماضيها يلاحقها، مما يجعلها تتعامل مع أطفالها بنفس الطريقة التي عانت منها، مبررة ذلك أن الذنب ليس ذنبها، بل هو نتيجة للبيئة التي نشأت فيها.

 أما الأم “م.م.”، فرغم معاناتها من غياب الحنان في طفولتها، قررت أن تنقذ أبناءها من الميراث العاطفي الثقيل.

تقول: “كنت محظوظة بالتعليم والدعم المادي، لكنني كنت محرومة من كلمة طيبة أو حضن ، حين كبرت، عرفت أن الفجوة العاطفية أخطر من أي فقر”.

واليوم، أبني  جدارًا جديدًا في بيتي : جدارًا من الحوارات اليومية، والعناق، والتشجيع. “أطفالي يتحدثون إليّ عن أحلامهم، وأنا أستمع. هذا ما كنت أحتاجه يومًا، وهذا ما أقدمه الآن”.

العار الذي لم يُمحَ“.

قال “ع.ب” إن قصته بدأت عندما كان في التاسعة من عمره، حين تعرّض للتحرش على يد أحد أقاربه، مشيراً إلى أنه لم  يدافع عنه  أحد، و لم يُحاكم الجاني، والأسوأ من ذلك، أنني أصبحت أنا العار في العائلة، كلما وقع خلاف أو مشكلة، يذكّرني أحدهم بأنني ‘ذاك الطفل الذي حدث له كذا .

وأكد أن الخذلان العائلي والوصمة التي لاحقته حوّلاه إلى شخص منطوٍ ، فاقد للثقة، يشعر دائمًا بأنه لا يستحق الحب أو التقدير.

ويقول ، الآن عمري 34 عامًا، لكن في داخلي لا يزال هناك طفل مجروح، يبحث عن حضن، وعن إنصاف لم يجده يومًا.

أعراض مرضية تقابل بالضرب

راوية الترهوني، سيدة ثلاثينية، نقول أتذكر طفولتي وكأنها سجن نفسي. كنت أعاني  من تأتأة شديدة ورمش لا إرادي في العين، وهي أعراض عصبية معروفة. لكن في بيتنا ، لم تُفهم حالتي كمرض، بل كعيب .

 وأضافت  ، كان والدي يضربني كلما رمشت كثيرًا، أو تلعثمت أثناء الحديث ، أُجبرت على الصمت في المجالس، وقيل لي مرارًا  (عيب تتكلمي قدام حد ) وكلما زارنا أحد للبيت ونطقت تنحرج أمي وتعدني بالعقاب ، ناهيك عن منعي للخروج لأي زيارة وإن خرجت لا أنطق .

وتابعت ، تلك المعاملة لم تقتل فقط قدرتي  على التواصل، بل جعلتني  أشعر  بأنني  ناقصة.

وأكدت أنها اليوم ترى نفسها امرأة ضعيفة، تخاف من الكلام، تخاف من أن تُخطئ، لأن الخطأ كان يعني العقاب دومًا.

غرفة الخزين وسنين العتمة

لم يكن “ن.ف” يتجاوز السابعة من عمره حين بدأ يُعاقب بالحبس في غرفة الخزين المظلمة، لأبسط الأخطاء.

وأوضح ، كنت أتبول لا إراديًا أثناء النوم، فيُحبسني والدي صباحًا في غرفة ضيقة لا نافذة فيها، ولا حتى موضع للجلوس. أحيانًا أُترك لساعات طويلة بلا طعام أو ماء.

ويضيف أنه بمرور السنوات، تطوّرت لديه حالة رُهاب من الضوء،  الآن، وبعد ثلاثين سنة، لا أستطيع النوم إلا في الظلام التام قائلا الطفل الذي حُبس هناك لم يخرج بعد.

وفي حالة مماثلة، يتحدث “ع.ن” عن ذكرياته مع  والده المتشدد، حيث كان العقاب حاضرًا عند أبسط خطأ.

وقال إذا تعثّر أحدنا في درجة اختبار، أو أخطأ في تصرف بسيط، كان أبي يعاقبه بالحبس داخل الحمّام الصغير. لا ضوء، لا نافذة، ولا أي شكل من أشكال الإنسانية.

وأضاف  ، أخي الأصغر كان أكثر من يُعاقب ، لم يكن يفهم الدروس سريعًا، وكان يُحبس لساعات طويلة. اليوم، هو رجل مكتئب، مدمن، ويؤذي أطفاله بالطريقة ذاتها.

وتابع قائلاً: “أما عن نفسي، فلا أعرف إن كنت سويًّا اليوم، لكن ما أنا عليه هو نتاج أب كان يرى القسوة تربية، وأمّ لا تملك أن تعارض”.

أما “ر.ت”، تروي  معاناتها مع التنمّر الأسري، موضحة أن أفراد عائلتها كانوا يشبّهونها بأشخاص يصفونهم بالبشعين، ويسخرون من أنفها، وجبهتها، ولونها.

وتقول ، لم أكن أبدي انزعاجي. كنت أقول دائمًا إنني راضية بخلقة الله. لكن الحقيقة أنني، ومنذ الطفولة، لا أستطيع النظر إلى المرآة براحة.

وتؤكد أن التنمّر لم يقتصر على العائلة، بل امتدّ إلى زملائها في المدرسة، ما سبّب لها عقدة شكلية عميقة.

وتضيف ، إلى اليوم لا أحب صورتي، ولا أرتدي ألوانًا زاهية، وأشعر أنني أعيش داخل جلد لا أنتمي إليه ، كل ذلك لأن أقرب الناس إليّ رسموا صورتي بأسوأ مما هي عليه.

الآثار النفسية “.

الدكتورة حنان حسين ، أخصائية علم النفس العيادي ، حاصلة على دكتوراه في الصحة النفسية من جامعة عين شمس،

أوضحت في تصريح سابق أن صدمات الطفولة مثل الإيذاء الجسدي أو اللفظي أو التحقير المستمر، تترك بصمات عميقة لا تُمحى بسهولة، بل قد تُعيد تشكيل الشخصية بشكل يجعل الفرد أكثر هشاشة أو عدوانية أو انعزالًا في المستقبل”.

وأضافت أن الطفل الذي لا يُحتضن عاطفيًا في صغره، سيكبر وهو يبحث عن هذا الاحتضان في كل علاقة، مما يجعله عرضة للاستغلال أو الفشل في الارتباطات العاطفية والاجتماعية”.

وأكدت أن التنمر العائلي والتمييز بين الإخوة، أو حتى الإهمال العاطفي غير المعلن، كلها أشكال خفية من العنف النفسي لا تقلّ خطورة عن الضرب أو الإهانة العلنية”.

ونبّهت الطفولة ليست فقط مرحلة عمرية، بل هي الأساس النفسي والسلوكي الذي تُبنى عليه باقي مراحل الحياة، ولهذا فإن كل ما يحدث فيها يُعاد إنتاجه بطريقة ما، حتى بعد عقود.

وفي السياق ذاته سلّطت الأخصائية النفسية عائشة بن يحمد ، الضوء على امتداد تأثير صدمات الطفولة إلى مراحل متقدمة من عمر الإنسان موضحة أن ما يواجهه الفرد من مواقف قاسية في طفولته لا يندثر بسهولة بل يترك أثره العميق في النفس وفي علاقاته وسلوكه اليومي

وترى بن يحمد أن الأثر النفسي يظهر في صورة اضطرابات كالقلق المزمن أو الاكتئاب الذي يلازم صاحبه بصمت وقد لا يُكتشف إلا متأخرًا أما على مستوى العلاقات فإن ضحايا الطفولة المتألمة غالبًا ما يعانون من صعوبات في بناء علاقات مستقرة أو يشعرون بانعدام الثقة في الآخرين الأمر الذي يخلق حلقة متكررة من الفشل الاجتماعي والعاطفي

وتؤكد كذلك أن السلوكيات العدوانية أو الانعزالية التي يبديها بعض الأفراد ليست سوى تجليات لصدمات لم يُفهم سياقها يوما ولم يتم التعامل معها بشكل سليم.

ولفتت ،بن يحمد إلى ضرورة اللجوء إلى العلاج النفسي، باعتباره وسيلة لفك تشابكات الماضي المعلقة ، كما تُبرز أهمية الدعم الاجتماعي في التخفيف من وطأة الذكريات الثقيلة، وتُشجع على سلك مسارات التعلم الذاتي وتطوير المهارات التي تفتح للفرد نافذة جديدة نحو التعافي والنمو.

تُوضح أن ذلك غالبًا ما يحدث بشكل لا واعي نتيجة تراكمات نفسية قديمة، إذ أن الأب الذي عانى من الحرمان أو العنف في صغره، قد يعيد إنتاج نفس السلوك دون أن يعي بذلك ، إضافة إلى الضغوط النفسية اليومية، مسؤولة عن استمرار هذه الحلقة المفرغة.

و ترى الأخصائية أن الخطوة الأولى  لكسر هذه الدائرة تكمن في الاعتراف بوجود المشكلة، ثم تنمية الوعي بها، يلي ذلك طلب المساعدة سواء من خلال الاستشارات الأسرية أو المبادرات المجتمعية المتخصصة في الإرشاد والدعم.

وتختم حديثها بالتنويه إلى أن بناء بيئة أسرية صحية لا يتحقق إلا من خلال توفير الدعم العاطفي، وتعزيز التواصل الفعّال بين أفراد الأسرة، إلى جانب تشجيع الأمهات والآباء على الانخراط في برامج تدريبية في التربية الإيجابية، وتنمية مهارات التعامل مع الأطفال على أساس التفهّم لا العقاب.

أفادت هدى العلي أخصائية اجتماعية ومستشارة أسرية في تصريح سابق ، أن صدمات الطفولة تتجلى لاحقًا على شكل شخصيات هشّة، تعاني من تردد مزمن، أو علاقات غير مستقرة، أو حتى فشل في تحقيق الذات، مهما كانت الإمكانيات متاحة.

وأضافت ، في المجتمعات العربية، لا يزال الكثير من الأهل يعتقدون أن القسوة والانضباط المبالغ فيه يصنعان طفلًا قويًا، لكن الواقع أن الإذلال المستمر، المقارنات المؤذية، أو التنمّر داخل الأسرة، كلها تشكّل ندوبًا غير مرئية ترافق الطفل حتى بعد البلوغ.

وتابعت ، الكثير من الحالات النفسية التي نتابعها داخل العيادات تبدأ جذورها في سن الطفولة.

مشيرة إلى لا بد من رفع الوعي الأسري، ليس فقط بالعنف الظاهر، بل أيضًا بالعنف الصامت: الإهمال، غياب الحنان، النظرات الجارحة، التهديد، التخويف، اللامبالاة.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :