سالم أبوظهير
ذات يوم ، شدتني تغريدة نشرتها الشاعرة الليبية خلود الفلاح حين كانت الحرب في مدينة بنغازي على أشدها قالت فيها ” تحت أصوات الطائرات، ونغمات مختلفة من التفجيرات، سنحتفل في بنغازي باليوم العالمي للشعر، الذي يصادف يوم 21 مارس ، و شعارنا «أنا الشاعر.. أنا حكاية مفضلة»” .
عكست هذه التغريدة إصرار شعراء ليبيا وشاعراتها على قرض الشعر والإحتفاء به، وهم بين خطر يخيفهم ، وخوف يهدد حياتهم. حرب كانت محطة مرعبة ، أنعكست أثارها ومأسيها و ، على كل مناحي الحياة في البلاد ، حرب كانت مزعجة ومؤلمة جلبت الدم والآلام، لكنها لم تقلل من شجاعة وعزيمة وصبر شعراء وشاعرات ليبيا، من أن يرفعوا أصواتهم ليهزموا هذه الحرب بالشعر والحب.
هنا بحث سريع لإجابة سؤال عريض : كيف تعامل الشعراء في ليبيا، مع تلك الحرب اللعينة التي أنتهت ، والتي أعلنت الشاعرة خلود ورفاقها تحديها لها وهي على أشدها ، ولم يفوتوا فرصة الإحتفاء بيوم الشعر الذي هزم الحرب ، حين أعلنت الشاعرة خلود مع رفاقها ورفيقاتها ، ممن عاشوا أتون تلك الحرب القذرة التي تعايشوا معها بروعة بصوت الشعر الصوت الذي كان بالفعل أقوى من أزيز القذائف ولعلعة الرصاص.
الشاعرة سميرة البوزيدي
الشاعرة سميرة البوزيدي ، لديها مجموعة شعرية مثقلة بالحزن ،عنوانها «تحت القصف» كتبت في صفحة أهدائها:
“كلما أتذكر كيف كنا تحت القصف، لا أصدق ما جرى!، إلى كل شهيد وجريح ومفقود، نأمل عودته إلى ليبيا الكبرى… لا اختلاف على الفرح“
سميرة وصفت في قصيدة من قصائد هذه المجموعة، كيف قلبت الحرب حياة العائلة رأسا على عقب؟ ، وما الاحتياطات التي اتخذتها الأسر الليبية للتعايش مع أيام الحرب ومواجهتها ؟
نكٌدسِّ المؤن ونواصل خوفنا على أطفالنا
فيما نفُكر في لحظة وهن
في مكامن أخُرى تنأى بعيداً
عن حفرة الدم
ثم صورت بقلق جانبا من الهم النفسي الذي سببته الحرب:
كل ما نستطيعه هو القلق والخوف
ننظر بشجاعة في عيون بعضنا
نلوذ بالبيوت
نرقب الميم طاء المفزعة
ونقلق باستمرار
الشاعر رامز النويصري
قصيدة طبول الحرب لرامز النويصري ، حملت بشكل دقيق بين طياتها ، وصفاً دقيقاً مؤثراً ، لما يفعله الأب الشاعر ليحمي أطفاله ، حين رسم بعاطفة الأبوة المؤثرة طبول الحرب في لوحة شعرية أخاذة ، ونقل لنا بشكل مؤثر تفاصيل حالة أب خائف يحيط به أطفاله المرعوبين ، لا يملك لطمأنتهم إلا حضنه ونصيحته وقرض الشعر.
في طبول الحرب يتحول رامز الأب الشاعر المرهف الإحساس، إلى الشاعر المحارب الشجاع ، فيصف لنا ببسالة وبدقة تفاصيل خططه الكاملة ، لمواجهة المعارك المتكررة المتلاحقة ، التي يعيش وأسرته وسط اتونها، ويقدم لنا خياراته المتعددة :
في انتظارِ معركةٍ قادمة،
قد تكونُ عندَ بابِ البيت،
أو في نهايةِ الطريقِ
سَأضمُّ صِغاري كلَّ مساء،
أحْكي عن السُّلطانِ الحزينِ، والفارسِ الشُّجاع
في خطة أخرى من خطط الشاعر ، يتحدى الحرب ويستعد لها ، بتشجيع أطفاله ليتعودوا سماع الرصاص المخيف ، ويحثهم على عدم الإكتراث بما يحدث من حولهم:
سأُعلّمهم كيفَ يبتسِمونَ للرصاص
وكيفَ يُزيحونَ صوتَ القتالِ بغِنائِهم.
الشاعر سالم العوكلي
الشاعر سالم العوكلي يقدم صورة مشابهة لطبول النويصري ، لكنها أكثر صدمة حين يصف ببراعة الحالة والمشاعر التي تعتري الشاعر الأب، وما يجب أن يفعله كلما اشتد القصف فيقول العوكلي:
على مرمى قذيفة من ساعة الحائط
أجمع شظايا أبنائي من أفق يتشقق
ثم يعرض محاولاته المتكررة لطمأنه أطفاله وتهدئتهم
وكلما دوّى قصف في الجبال
أقول لهم إنه الرعد
لكن العوكلي يعود ويبين أنه فشل في ذلك ، ويوضح لنا لماذا فشل ؟:
ولكن كيف لوهمي أن يصمد
وهم يعرفون هوية الانفجار من نبرته.
وفي مقطع اخر ينقل بإحساس مؤثر ألمه و حزنه وتحسره وتذمره مما فعلته الحرب في تمزيق أواصر المحبة والترابط والأخوة بين أبناء بلد واحد :
المقتول أخي والقاتل
وهذا الرأس الملفوف بالقصدير
كأني شربت معه القهوة ذات صباح
ومن لم تقتله الحرب بترت أطرافه:
والأطراف المبتورة تمشي كلَّ ليلٍ،
في كوابيسي، إلى قبورها الصغيرة.
الشاعرة عائشة إدريس المغربي
الشاعرة عائشة المغربي تصف فجائع الحرب بعد انتهائها:
انتهت الحرب
وتركت على رف المشتريات
كثيرا من الثياب البيضاء
كي ترتديها المدن العارية
للاحتفال والرقص
ثم تضيف تفاصيل أكثر عن مخلفاتها الحرب في البلاد:
هذا ثوب ملطخ بنجوم سوداء.. لتاورغاء..
وهذا ثوب بقلب مشنوق.. لسرت..
وآخر مرسوم بسبعات الهزيمة (لبني وليد)
وأثواب كثيرة مثقوبة القلب.. لبنغازي..
وثوب لغزالة هاربة
تركض بحسناء عارية.. لطرابلس..
الشاعرة خلود الفلاح
فيما ترسم خلود صورة مختلفة عما رسمته عائشة ،ونقلت ما تخلفه هذه الحرب من ندوب في حياة الصغيرات، وصعوبة أن تنتهي تراكماتها لسنوات طويلة فتقول:
الفتيات الصغيرات
يملأن الفراغ
بحكايات قديمة
عن آباء ذهبوا إلى الحرب
وتعرض خلود محاولات أمهاتهن، لتخفيف حدة المصاب الجلل بصناعتهن الفرح
وأمهات يصنعن الفرح
الفتاة الصغيرة
مع الدمية الوحيدة
تتأمل بكاء الضيوف
عن آباء ذهبوا إلى الحرب.
الشاعرة رحاب شنيب
الشاعرة رحاب شنيب عانت من الحرب التي كانت سبباً في تهجيرها ، وجعلتها تغادر بيتها في بنغازي، فكتبت نصاً حزيناً مؤثراً جاء فيه :
لا أشتهي القصيدة
هذه الليلة
وبينت بعدها، أسباب عدم رغبتها في كتابة الشعر، وعزوفها عن الإستمرار في نظم قصيدتها:
قصيدةٌ
لا تلثم ملامح المارة
في شوارع مدينتي المفجوعة
لا تسكن آهاتهم
ليس لها صوت القنابل
وصراخ الأطفال
وأنة الأرامل
وتواصل رحاب من منفاها داخل الوطن في سرد مأساتها:
قصيدةٌ
لا تتسكع
في مخيمات النازحين
وفي عقول
شبابنا المسلوبين
باسم الله.
شنيب كتبت قصيدة أخرى عنوانها «عين واحدة» سمت من أشعلوا نار الحرب في بلادها بالمقامرين بالوطن ، ووصفتهم بالخيانة والوضاعة والانتهازية، واتهمتهم بأنهم قامروا بليبيا ليحققوا مطامعهم، على حساب بيوت مهدمة ودماء سالت بلا سبب:
حين يدركون
أنهم
خائنون مثلهم
وُضعاء مثلهم
وقتلة مثلهم
وأنهم
بنوا أحلامهم
على ركام البيوت
ودماء المجازر
الشاعر محيي الدين محجوب
الشاعر الليبي محيي الدين محجوب لا يكترث بالحرب ولايخافها فيقول في قصيدته «الغميضة»:
قلت يا حبيبتي:
أمام قلبي..
ﻻ يمل الموت من لعبة الغميضة.
قلت..
ولست أبالي
بما يضمره الرصاص
لذاكرة الحرب
الشاعر عبد الباسط أبو بكر محمد
الشاعر عبد الباسط أبو بكر محمد يسير على خطى محجوب ، ويعلن في «قبر هُناك» عدم اكتراثه ولامبالاته من الحرب، فيقول عن قبره:
لكنه سيعيدني
إلى ترابكَ
أيها الوطن
مطمئناً
ويمضي عبد الباسط في توجسه من المستقبل، متوقعاً الطريقة التي سيموت بها ، وهو يعيش وسط هذه الحرب ويتعايش معها ، فيؤكد مقرراً أن موته سيكون بـ:
رصاصةٍ طائشة
أو سيارة مفخخة
أو فكرة تقطع الرأس!
وختاماً …
رغم أن شبح الحرب في ليبيا وماخلفته ،لايزال كابوساً جاثما على صدور الليبيين، والحديث عن مأسيها لا يكاد ينقطع بينهم ، إلا أن الشواهد تدل على أنهم يتحدونها ، ويستقطعون وقت مهماً يتنفسون فيه الابداع ،ويحلمون بواقع مختلف فيه لذة الحياة ونعيم العيش بأمن وأمان .
يقودهم في هذا الشعرالليبي، الذي أتبث واقعياً أنه قادر على التحدي المفروض عليه، فقبله وأنتج منه إبداع يستحق أن يهتم به الناس رغم ضجيج الحرب، إبداع نجح شعراء وشاعرات ليبيا في أن يوظفاه ليكون وسيلة من وسائل تخفيف حدة الالم والحزن والتشاؤم والخوف، وكتب بعض منهم قصائد عديدة عن هذه الحرب قد تختلف ،لكنها تمثل كلها حالات وجدانية متباينة تتفق في مضمون واحد تقريبا يقود لعنوان واحد ،وهو أن الشاعر الليبي الانسان ،لا يكره الحرب فقط ،لكنه يقاومها من أجل أن يكون وفيا لوطنيته الليبية وطنه ليبيا..