أوراق أدبية (عبد الرَّحمن الجُعيدي وحصار بيروت )

أوراق أدبية (عبد الرَّحمن الجُعيدي وحصار بيروت )

بقلم :: الطاهر عريفة 

بخلاف غيره من الشعراء الليبيين يمزج عبد الرَّحمن الجُعيدي الموهبة بالتجربة، والتجربة بالمعاناة. فهو باعتباره ومضة فنية ذات إحساس شعري مرهف يخوض التجربة القاسية في حصار بيروت الطويل، ومن خلال هذه التجربة تبدأ معاناة عبدالرَّحمن الجُعيدي مع الكلمة الملتزمة. وعن ذلك يقول ((لقد عشت حصار بيروت ولم أتركها إلاّ بعد المقاومة في صبيحة 4 سبتمبر 1982م.  كنت أثناء الغزو والحصار كغيري من الصحفيين الذين يغامرون، وكالفقراء الذين لا يستطيعون مغادرة بيروت إلى الجنوب بعد احتلاله، بزجاجة لتر من الماء نستحّم وننام، نرقب القصف، نلمح الطائرات تغير، تلعننا، نتقاسم ألفاف الخبز يأتينا من النافذة، أصبحنا نختار الموت، بعضنا يحبّذ أن يموت نائماً، وبعضنا رأى الحياة في الملاجئ فداهمه الموت، وآخرون استشهدوا في الخنادق([1]).

وكانت حصيلة هذه التجربة الفنية الإبداعية أنه قدّم ديوانيِّ شعر من الحجم الصغير هما ((أحبك من البحر إلى دمي)) الذي صدر عن المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان بطرابلس سنة 1984م. والثاني ((أغان على أرصفة الضياع)) عن الدار الجماهيرية بطرابلس سنة 1986م.

بالإضافة إلى مجموعة من المقالات الصحفية نشرت على مراحل بجريدة الجماهيرية وقدمت في شكل كتيب بعنوان ((أدنى من الموت)) سنة 1983م.    وفي هذا الكتاب يعرّى عبد الرَّحمن الجُعيدي الواقع العربي الراهن حيث يتفرج الحكام العرب على المقاومة الفلسطينية وهي تذبح في بيروت على مرأى ومشهد من العالم كلّه.

عن هذه التجربة الفريدة عند شاعر ليبي يعايش الأحداث ويكتب وقائعها بأظافره وهو يشهد حصار بيروت كتبت فوزية شلابي وكانت وقتها ترأس تحرير جريدة الجماهيرية التي يكتب إليها عبد الرحمن بمقالاته من بيروت تقول: ((كنّا نهمّش الحرب، وكان عبد الرحمن يكتب الحرب، كنّا نختار المانشيت وكان الموت يختار عبد الرحمن لاحتمالاته، كنّا نفرز ألوان الماكيت، وكان عبد الرحمن يفرز أصابع القتلى. ولم أكن أسمِّي ذلك انحيازاً لعبدالرحمن، كنت أسميه انحيازاً للقارئ، للجريدة، للحقيقة، ربما كان عبد الرحمن موضوعاً لبرجماتية من نوع ما. فهل كنّا حقاً ننتفع من دم عبد الرحمن على حساب دمه، وهل كان هاجسنا تجارب ((همنغواي)) ((أرجون)) ((وسارتر)). وهل كنّا نردد مع ممدوح عدوان   ((ينقصنا شهيد)) ونقول يا عبد الرحمن كن أنت لنكون نحن)) ([2]).

في إحدى مقالاته التي كتبها من بيروت المحاصرة سنة 1982م. كتب عبد الرحمن الجُعيدي عن الواقع العربي ومأساة الأنظمة العربية وكيف أنها عادت وبالاً على الجماهير ومارست عليها مزيداً من القهر والتسلّط يقول في مقالاته بعنوان ((خلوا دباباتكم تصدأ في المخازن)) ما يلي:

كرز الحكام العرب يصيب الجماهير العربية المغبونة، يصيبها، فيساقون  للسجون ولأعواد المشانق يلصقون بها التهم المختلفة لأنهم أحسوا أن عروشهم بدأت ترتعش من كلمة، من همسة، رفعتها أجهزة التنصت.

كرز الحكام العرب يبدو واضحاً من خلال احتكارهم للأسلحة، من خلال أوسمة الشجاعة، والإقدام، والبطولة التي يزينون بها صدورهم. والرتب المختلفة التي يلصقونها على أكتافهم. وكرز هؤلاء القوّاد يصاحبهم بجولاتهم إلى أوروبا الشرقية والغربية وأمريكا بغرض شراء المزيد من الأسلحة الحديثة ليتم تخزينها ولتصبح بالية في مخازنها. ماذا نقول ؟ طفل في السابعة يلعن حكامنا العرب وهو يتمزق ويهتف للبندقية. امرأة عاهرة باعت شرفها وقبلت أن يدنسها رجل شرقي لكنها لم تقبل أن يدنسها الحكام العرب وحملت بندقيتها في وقت سقطت فيه كل البنادق دفاعاً لا عن شرفها من ذلك الرجل وإنما من رجس الحكام العرب وخيانتهم.

ماذا نقول أكثر ؟ .. شيخ هرم يحلم والدنيا تدنو به نحو نهايته أن يرى الشعارات التي يرددها الحكام العرب كالببغاوات تتحقق قبل أن يُسْلم روحه وإذا بحلمه يقتله الحكام، ويحققه شبل يتصدى ببندقية ثورية نجا حاملها من محاكمة القادة العرب([3]).

بهذا الانفعال الوجداني الصافي خاطب عبد الرَّحمن الجُعيدي قراء صحيفة الجماهيرية عن معاناة بيروت وحول المقاومة. وفي هذه المعاناة والمعايشة اليومية للأحداث ينعي عبد الرحمن الأنظمة العربية إلى جماهيرها، ويفرّق بشكل صادق بين هذه الأنظمة وبين الجماهير. ففي حين نرى استسلام هذا النظام أو ذاك نرى الأمل يشعُّ من خلال النماذج التي يطرحها. ومن خلال البدائل التي يلاحظها يومياً في بيروت بمعاينة الصحفي وبإحساس الشاعر. ويجعل الأمل في الأطفال أولئك الذين يرفضون الهزيمة ويثأرون لأنفسهم وأمّتهم.   عن تجربته البيروتية كتب عبد الرحمن شعراً بعنوان ((أيلول)) يقول:

مذابح ايلول

كانت تأشيرة دخول

لوطن جديد من الهموم

لخرقة وكعب البارود

للمجازر ودم الوريد

في أيلول، عرفناك يا بيروت

دماً فلسطينياً كان فجرك

جنياً خط دمه أسمك

في أيلول

فضت بكارة المخيمات

زرع الحقد

لكننا

زرعنا حبك

في مسام الزهور

وأحببناك.

فيك

لم تطاردنا المخابرات

كتبنا المناشير

رفعنا السلاح

عقدنا صفقات للموت والحب

لكل الأجناس

في أيلول يا بيروت

كنت كوجه أمي حزينه

وكطفلة بريئه

وتبقين كالسرو

أنت تُناجيننا

ولئن أبكيتنا دماً([4]).

عبد الرَّحمن الجُعيدي يمزج حسه المرهف اتجاه وطنه العربي الكبير بإحساسه العاطفي الوجداني ويحاول جاهداً بناء نغمة جدلية بين الاثنين. وعن ذلك يتحدث الشاعر العراقي مظفر النواب في المقدمة التي وضعها لكتاب عبد الرحمن    ((أدنى من الموت)) بالقول: كان لصراحة عبد الرحمن وجرأته وحزنه وطأة في أيام الغزو وستظل كأي شيء صريح جريء وحزين، وإذا كان ظله الطويل يمتد في كل تلك الصحراء، فلكي يشير إلى ينبوع في النهاية، نجمة وقصة حب. فمن قصة الحب ومن قصة الغزو ينهض نسيجه ليصدّ رياح أيام الأزمنة السيئة([5]) ، عن الوطن والحرية والمرأة يتحدث عبد الرحمن في قصيدته المعنونة ((واحد)) حيث نرى المزج بين الملجأً الذي يحتمي فيه عبدالرحمن من القصف وبين قلبه الذي أصبح ملجأً للحب والحرية. حيث يقول:

أنثر دفاتري، تخرجين من همزات الوصل

أسافر بجواز سفري وحيداً..يجدك رجل

الجوازات معي، فيطردنا معاً

يستوقفني بوليس الآداب لا يجد في أعماقي

غيرك، فيحقق معي

ألتجئ للعصافير، للصحيفة، للزملاء

والأصدقاء. للحرية. للاسطوانه

فأجدك أمامي

أغمض عيني فإذا أنت بهما

أهرب من عينيّ فتكونين قد سبقتني إليهما

أفتش عن ملجأ فإذا بي ألتجئ إليك وعن

كسرة خبز عندك أجدها

أيتها الحصار العنيف

كيف تخرجين من جلدي([6])  .

هذا المزج بين حب الحرية، الوطن، والمرأة يغلّف قصائد عبد الرحمن ويجعل منه وحدة واحدة وكلاً مكملاً لذاته وميزة يتميز بها عن غيره من الشعراء. في قصيدته ((متهمان)) نقرأ ما يلي:

متهم بك يا وطن

بالعشق أنا متهم

متهم أنت بالعشق

متهمان

نحن

بالورد

بالأقحوان

متهمان

بتعاطي الرياح

بالرومانسيه

بمحاكاة البحر

متهم أنت وأنا

بالدم الذي يلوّث القضبان([7])

عن التجربة الشعرية لعبد الرَّحمن الجُعيدي يتحدث الشاعر العراقي مظفر النواب قائلاً: (( من الصعب هنا التحدّث عن بناء، من المبكّر ذلك، عالمه لا يزال يومئ أكثر مما ينبئ. هل أجرؤ أن أقول لم يفكر بعد في البناء.. إنما هي انفجارات وشظايا.. وشرر، يريد أن يهتك الظلام فلم يعد الضباب وحده يحجب الرؤية)) ([8]).

([1]) –  أدنى من الموت – عبد الرحمن  الجعيدي – ص14.

([2]) –  أدنى من الموت – عبد الرحمن  الجعيدي – ص52 – 53 .

([3]) –  أدنى من الموت – عبد الرحمن  الجعيدي – ص14.

([4]) –  أغان على أرصفة الضياع – عبد الرحمن الجعيدي – ص17 – 18 – 19.

([5]) –  أدنى من الموت – عبد الرحمن  الجعيدي – ص8.

([6]) –  أحبك من البحر إلى دمي – عبد الرحمن الجعيدي – ص9 – 10.

([7]) –  أغان على أرصفة الضياع – عبد الرحمن الجعيدي – ص11 – 12 .

([8]) –  أدنى من الموت – عبد الرحمن  الجعيدي – ص9.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :