- شكري السنكي
تتجسد وتتجلى فِي شخصيّة المَلِك إدْريْس السّنُوسي قيم الخير والتسامح والعطاء.. محبة الوطن، وحبّ البناء والإعمار، وتجنب الحرب وكراهيّة الدمار.. الصدق والعدل والإنصاف.. الاعتدال والاستقامة.. الحكمة وإمعان النظر.
كان المَلِك إدْريْس نمُوذجاً فِي رِحلَة جهاده ضدَّ المستعمر الإيطالي، ورحلة تأسيس دولة ليبَيا الحديثة.. وكان فِي سُلوكه يعكس قيِّماً راقِية عظِيمة علَى المُستويين الشخْصِي والعام، وقد جسد هذا النموذج مبكراً، حيث أكد غايته وهدفـه مِن الحركة الوطنيّة الّتي كان يقودها، فِي خطاب ألقاه في مدينة بّنْغازي يوم 30 يوليو 1944م، فقال:«ليس لي مأرب ولا غايّة فِي هذه الحيَاة الفانيّة إلاّ أن أرى أهل وطنيّ أعزاء متمتعين بحريتهم».
كان المَلِك إدْريْس فِي شخصه وسيرة حياته، المثال الّذِي يحتذى به.. وصاحب السجل الحافل بِالأعمالِ الخالدةِ والمواقف الشامخة العظيمــة المشرفة.. حقق الإنجاز، وعمل فِي صمت، حيث كان لا يحـب الأضــواء ولم ينسب أيَّ نجاح تحقق لنفسه، بل كان ينسبه دائماً للأمّة والرجال الّذِين كانوا معه.
لم تبهـره السّلطةً، ولا المال أغراه.. ولم تجذبـه الأضـواء، ولا ضجيـج العالـم مِن حـوله فتنـه وأغـواه.
لم يطلب مِن أحد أن يدافع عنه، مؤمناً بأنَّ الله يُدافِعُ عَن الَّذِين آَمنُوا.. ولم يصدر لأجهزته فرمانات تجعل مِن اجتهاده السّياسي خياراً غير قابل للاعتراض عليه، وشخصه خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه !.
لم يطعن فِي أيَّ شخصِ خالفه الرَّأي، ولا هُو دان يوماً مَنْ خالفه الاجتهاد، أو اتخذ طريقاً غير طريقه، فكان مؤمناً بالتنوع وتعدد الاجتهاد، وباحثاً عَن الحكمة الّتي هي ضالة المؤمن أنى وجدها فهُو أحق بها، وحليماً فِي معاملاته، وعند شخصه كان يذوب كُلِّ خلاف ويذهب كُلِّ غضب إِلى حال سبيله.
حافظ – طيّب الله ثراه – على مسافة بينه بين كلِّ خلاف دبّ بين الرَّفاق، ولم يشعل فتيل الخلاف أو يذكيـه يوماً، ولا عمره انحاز لطرف ضدَّ طرف آخر، أو غذى الفرقـة والصّراع بين أبناء الوطن الواحد، فكان انحيازه دائماً لمصلحة الوطن وصالح المواطن الّذِي كان يرى أنه عانى زمناً طويلاً وآن له الأوان لكي يستريح ويرتاح.
لم يستبد مطلقاً برأيـه غير آبه بآراء الآخرين بل كان يستشير ويستنير بآراء الّذِين يتحاور معهم، ويبحث دائماً عَن الرَّأي السديـد والخيـار الأفضـل، وكان شديد الحرص على منح كُلِّ مسئول صلاحياته كاملــة دون نقصـان أو أيَّ التفاف.
كان ورعاً تقياً، يخاف الله ويخشاه، وعمل بِكُلِّ تفانٍ وإخلاص وإنكار للذَّات مِن أجل ليبَيا وخير أبنائها، مخلصاً النية لله تعالى ومتوكلاً عليه، ومستنداً إلى مشروع وطنيّ له أهدافه، وضوابط لا تخرج الأهداف عَن مسارها المتفق عليه. وضبط خطّواته على إيقاع مشروع كان الوطـن مبتغاه، فلم تحركه نوازع ذاتيّة ولا مصالح شخصيّة، فكانت مصلحة المواطن ديدنه، ومصلحة ومُسْتقبل الوطن، الهم الأكبر له.
عمل فِي صمت بعيداً عَن الإعلام وعَن الشعارات والأوهام، وقد تحقق فِي عهده إنجازات عظيمة كانت الأفضل على مستوى الدول الناميّة، وبشهادة المُنظمات الدّوليّة وعلى رأسها الأمم المتَّحدة.
لم يقبل التطبيل والتزمير والتمجيـد.. ورفض الهتاف للحاكم ونسج الأشعار له. وكان يريد أن تكف أيدي الِلّيبيّين عن التصفيق والتطبيل، وألسنتهم عَن مدح الحاكم والهتاف له، لأن ذلك يرسخ التخلف وينشر النفاق، ويفسد الحيَاة السّياسيّة، ويجعل الحاكم يعتقد فِي نفسه أن مَا يقوله منزه عَن التأويل أو الخطأ أو الاعتراض، ويحوله إِلى طاغٍ مستبد يختصر فِي شخصه الوطن وكأنه صاحب وكالة حصرية له.
لم يقبل الأوسمة والنياشين والرتب العسكريّة، ورفض أن يطلق اسمه على شارع واحـد مِن شوارع المملكة الّتي تملك أطول ساحل مِن أيَّ بلد أفريقي مطل على البحر الأبيض المتوسط، إذ يبلغ طول ساحلها حوالي ألفي كيلو متر. وحينما أقدم أحد وزرائه على إقامة احتفالات عامّة فِي العام 1968م بمناسبة ذكرى ميلاده – ودون علمه، ولأوَّل مرَّة فِي تاريخ المملكة – غضب المَلِك بشدة واستنكر مَا قام به وزيره، ورفض أن يُحتفل بعيد ميلاده ثانيّة، لأن خزانة الدولة لا ينبغي أن تتحمل المصاريف الخاصّة للمسؤولين، بِالإضافةِ إِلى أنه أمر يتناقض مع شخصيتـه الزاهدة العابدة، وأمر لم يتعوده الِلّيبيّون مِن قبل، وفِي ذلك الوقت.
وبعدما أُطلق عليه لقب «صاحب الجلالة»، انزعج المَلِك مِن ذلك وأصدر مرسوماً ملكياً يلغي فيه هذا اللقب، مؤكداً أنه مِن خصائص الله تعالى وحده !. وحينما قامت الدولة بوضع صورته على العملة الِلّيبيّة – ودون علمه – غضب المَلِك غضباً شديداً وأمر بإلغائها، فأخبروه بأن الإلغاء سوف يسبب خسائر كبيرة للبلاد، فأمر أن يُعمل بقراره فور تجاوز هذه الخسائر وتفاديها، بحيث ألا تصدر الطبعة الجديدة بصورته. وحينما حاول البعض أن يهاديه، أصدر أمراً رفض بموجبه قبول الهدايا مِن أيَّ جهة، وفِي جميع المناسبات، الخاصّة والعامّة. ويوم أن اقترح عليه أحد وزرائه تسمية ليبَيا بـ«المملكة السّنُوسيّة»، تعوذ مِن الشيطان الرجيم ثمّ نظر إِلى مُقدم الاقتراح نظرة جعلته يخجل مِن نفسه ! مُستنكراً اقتراحه ومتعجباً مِن أمره، والغريب فِي الأمر أنَّ هذا الوزير – وبعْد انقلاب القذّافي فِي سبتمبر 1969م – بادر مِن تلقاء نفسه بالترحيب بالانقلابيين، ووصفهم بأنهم: «فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ».
وَخِتامّاً، هكذا كان المَلِك إدْريْس السّنُوسي، وكذا كانت أخلاقه وسيرته العطرة. فقد ترك المَلِك – رحمه الله – بصماتٍ واضحةً وجليةً على صدر وطننا الغالي، ولعب الدّور الأبرز فِي نهضتنا الوطنيّة فِي جميع المجالات.
هكذا كان أبانا المُؤسس ووجه تاريخ ليبَيا ناصع البياض، وكذا كانت سيرته وتاريخه الحافل بِالعطاءِ والتضحيّاتِ والإنجازاتِ.
ذلك هُو المَلِك إدْريْس المثال الّذِي يقتدى به، والنموذج الواضح للحكمة والاتزان، والرمز للعمل المخلص فِي سبيل نهضة الوطن وتحقيق سعادة مواطنيه.
واليوم، نترحم على روحه الطاهرة وروح كافة الرجال الّذِين كانوا معه، والّذِين حققوا الاستقلال، وجَاوزْنَا بأنفاسِهم المحن والكروب، وبنوا لنا دولة مزدهرة، كنا نتفاخر بها أمام العالم.
نترحم على روح سيِّدي إدْريْس، «أبو الدستور» ومُؤسس الدولة الِلّيبيّة، ونُذكر بضرورة أن يكون ارتباطنا قوياً بالتاريخ وأصحاب الفضل علينا وعلى الوطن، وأن نعتز بصفحات تاريخنا المُشرقة، وألا نتجاوز الماضي ونحن نعيد تأسيس دولتنا بعد عقود حكم الاستبداد، ونخطط لمُسْتقبل أفضل لأجيالنا القادمـة.
وأخيراً، نؤكد على ضرورة أن تكون سيرة المَلِك إدْريْس والرجال الّذِين جاهدوا تحت إمرته والّذِين شيّدوا الدولة وأسَّسوها معه، النبراس الّذِي نهتدي به، والمنارة الّتي تضيء لنا عتمة الطريق.. ولنكن أوفياء مع أولئك الرجال الّذِين أسَّسوا لنا دولة مِن عدم، ودولة لم يراهن – وقتما أُعلن استقلالها – على قيامها أحد سواهم.. وأوفياء مع ماضينا، ومعتزين بقيمنا وتقاليدنا، وحريصين على أن نكون الامتداد لأولئك الرجال الغُرّ الميامين الشجعان.
رحم الله المَلِك إدْريْس وأولئك الرجال جميعاً، وجعـل مثواهم جنّات النعيم.
3 يوليو 2020م
*) سبق وأن نشرت هذه المقالة في بعض مواقع الصحافة الِلّيبيّة، وفِي صفحتي الشخصيّة بالفيسبوك تحت عنوان: «سيِّدي إدْريْس.. سيرة عطرة ومسيرة مباركة»، وكان ذلك فِي 13 سبتمبر 2017م