أحمد صالح
وما أسرع جريان الأيام…. ! لقد مرّ بنا رمضان الماضي، ثم مرت بعده الايام والأسابيع والشهور وكأنها ساعات، وإذا بنا نستقبل رمضانَ آخر، ومن يدري ربما يكون رمضان هذا لبعضنا هو آخر رمضان يصومه… فكم من نفوسٍ تمنت.. وكم من قلوبٍ حنّت ان تدرك معنا هذا الشهر الكريم لكن الله تعالى يقضي في العباد ما يشاء ويختار… وكم عرفنا اقواماً.. وكم عرفنا إخواناً.. وكم عرفنا احباباً.. وكم عرفنا جيراناً صاموا معنا رمضان أعواماً.. لكنهم اليوم من سكان القبور ينتظرون البعث والنشور.. ما كأنهم الآن فرحوا مع من فرح، ولا كأنهم ضحكوا مع من ضحك ولا كأنهم تمتعوا مع من تمتع.. قد حِيلَ بينهم وبين ما يشتهون….
أيها الأحباب الكرام: إنّ إدراكنا لرمضان هو نعمهٌ ربانيه ومنحهٌ إلهية، فهو بشرى تساقطت لها الدمعات وانسكبت لها العبرات..
قال تعالي :- {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}،
قال تعالي :- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
ذكر الله سبحانه وتعالى ان هذه العبادة كنا انها فرضت علينا وأُوجبت لمحبه الله عز وجل لها، فإنها كانت واجبه على الأمم السابقة:
– فأمر بها إبراهيم قومه. – وأمر بها شعيبٌ قومه. – وأمر بها هودٌ قومه. – وأمر بها لوطٌ قومه. – وأمر بها عيسى وموسى اقوامهما،
{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }. ففرض على أمتنا كما فُرض عليهم.. ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستبشر بقدوم هذا الشهر الكريم فقال عليه الصلاة والسلام كما روى النسائي: «أتاكم شهر رمضان.. ((شهر مبارك))».. ويا لها من كلمه وجيزة وعباره بليغة (شهر مبارك)، ذكر العلماء لهذه الشهر الكريم أكثر من أربعين بركه.. بركه في الدعاء، بركه في الرزق، بركه في الصلاة. بركه في الإنفاق، بركه في قراءه القرآن، بركه في الوقت، بركه في الليل، بركه في النهار، بركه في الطعام، بركه في الأخلاق و…. وغيرها من البركات.
ولذا قال «أتاكم شهرُ رمضان شهرٌ مبارك، فيه تفتح أبواب الجنة وتغلق ابواب الجحيم وتعب الشياطين، فيه ليله خير من ألف شهر من حُرم خيرها فقد حُرم».
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستبشر بالصوم عموماً ويبشر أصحابه به ويأمرهم باستغلاله واستثماره فقال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فأنه لي وانا الذي أجزي به»
يقول الله تعالى: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، للصائم فرحان يفرحهما، فرحهٌ عند فطره وفرحهٌ عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك»
هذا يا مسلمين في الصوم عموماً فيمن صام الاثنين والخميس والأيام البيض وغيرها من النوافل.
فما بالك بمن يصوم هذا الشهر الذي افترضه الله عليه.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تعالى: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب… ثم قال بعدها.. (وما تقرب إليّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليّ مما افترضته عليه».
أيها المسلمون والمسلمات: ساعات قليلةٌ تعدها الأنفاس واللحظات ويحل علينا صاحب الأيادي البيضاء.
الذي إذا أعطى لم ينتظر الجزاء. وليس كمثله زائر يأتي بالعطايا والهدايا والهبات… وينادي في الناس: هل من مقبلٍ على العطاء؟؟ وهل من مستجيب للنداء؟؟ هذه الروح علينا أن نبثها في نفوس الناس وبين أولادنا وأهلينا وبين كل من نحب.. إنّها روح استقبال رمضان، والاستعداد لأيامه ولياليه، وإعداد العدة للاستفادة القصوى… لا بطعام الأمعاء وشرابها.. وإنما بغذاء الأرواح والقلوب.. بالقرآن تلاوة، وبالطعام والشراب صياماً، وبالصلاة قياماً، وبالمال تصدقاً، وبالطاعات تعبداً وتنسكاً… نعم أيها الأحباب: بعد ساعات وجيزة، سيُقص على شريط المنافسة والمسابقة والمبادرة والسرعة والانطلاق على مضمار الطاعات والقربات في شهر العبادة. ستنزل ملائكة الرحمن بسجلات بيضاء جديدة وستدون فيها كل ما ستخطونه وتعملونه في الثلاثين يوماً فاستعدوا من الآن على ان يكتب لكم فيها ما سيفرحكم ويبيض وجوهكم غداً بين يدي الله..
كلهم سيدخلون في وقت واحد هذه الجامعة الرمضانية وسيعلنون بوقت واحد الصيام للخالق جل في علاه.. ليس هناك في أمةٍ على وجه الأرض من يسجد أكثر منها، ويركع أكثر منها، ويقرأ اكثر منها، ويسبح أكثر منها، ويدعو اكثر منها، ويتصدق أكثر منها.. ما أجملها من صوره رائعة تشرح الصدر وتغذي القلوب وتروي الأفئدة بالسعادة والانشراح وأنت ترى مع بدء الساعات الأولى من شهر الصيام المسلمين يملؤون مساجدهم ويتقاطرون إليها من كل حدبٍ وصوب.
كيف.. كيف لو ظللنا وبقينا واستمررنا على هذا الإقبال على الطاعات وهذه المسارعة على القربات وهذا الانطلاق للطاعات بكل شوق ولذه وخشوع.
كيف لو كانت حياتنا كلها على هذه الحالة من الإقبال والسرعة والانطلاق والشوق والرحمة والحب والحنان والشفقة والتواضع والاخلاص والطمأنينة. هل كنا سنفرط بدمائنا؟ وهل كنا سنتقاتل فيما بيننا؟ وهل كنا سنحقد على بعضنا؟ فرمضان يعلمنا ورمضان يربينا ورمضان يغرس في نفوسنا قيماً رقراقه ومبادئ سامية فهو ميدان الانتصار الحقيقي على النفس والهوى. وإذا انتصرنا في هذا الميدان انتصرنا في سائر ميادين حياتنا..
اللهم بلغنا رمضان وأعنا على صيامه وقيامه واجعلنا من عبادك المخلصين