إفــــــــــــــــتراق

إفــــــــــــــــتراق

بقلم :: محمد عبد الوارث  

لم يكن غريبا أن موعد قيام الحافلة المتجهة إلى مدينة طرابلس بليبيا يسبق صلاة الجمعة بساعة ، مما حرمنى من أداء هذه الفريضة التى ظللت طوال عمرى مداوما عليها مثلما وجدت أبى محافظا  عليها منذ وعيت. لا اعرف لماذا تذكرت أمى فى ذلك الوقت بصوتها الناعم الرنان وهى تقول ذلك المثل ” من فات داره أتقل مقداره ” .

حافلة النقل السريع إسماً على مسمى، تقطع بنا المسافات تلو المسافات ، حتى أن لحظات من النوم الخاطف كانت تنتابنى ، ولكنى فى كل مرة استيقظ وحفيف الإطارات التى تنهب الأرض ما يزال لاصقاً فى الأذن . فأظل مستيقظاً مفتوح العينين أرقب كل شىء . عندما وصلت موقع العمل قرب مدينة ( سرت) على الطريق الساحلى . أستقبلنى الزملاء بحفاوة دافئة وافسحو لى مكاناً فى غرفة وتركونى أنال قسطاً من الراحة بعد عناء رحلة العشرين ساعة .كان صوت الحافلة الهادر ما يزال عالقا بأذنى حتى أننى أستغرقت وقتاً ليس بالقليل حتى غلبنى النوم . ولكنى لم أستطع اصطياده إلا فى لحظات يسيرة . فأنا من الذين يخشون النوم العميق أثناء السفر . أيقظنى عند منتصف الليل فزعاً صوت حمار ينهق نهيقا متوالياً بأعـــــــــــــــــــــــلى صوت كأنما أحد ما يقسو عليه . وبعد طلقات نهيقه الذى عــــــــــــم فضاء الليل للحظات ، صمت صموتاً فجائياُ .كأنما هذا الصوت قد أندلع من الغيب واختفى فى الغيب . فأخذنى النوم ….. نهق ثانية فانتبهت . نهيقه ليس نهيق حمار كبير، لكنه يبدو صغيــــراً فنهيقه الموجع ما زال مستمراً للحظات .. ثم صمت صموتـــــــــــــــــه الغريب . تمثل الموقف فى ذهنى وصار فى بؤرة الفكر، هـــــــــــــــذا الصريخ المؤلم المفاجىء لهذا الناهق الصغير كان صوته يأتــــــى من مكان قريب كأنه مجاور لى . الغريب أن المحيطين بى بدو كأنهم لا يلاحظون هذا الصوت ، أو ربما قد اعتادوا عليه …. فى الصباح الباكر ، فاجئنى صوت النهيق ، وازداد تعـــــــــجبى . وطافت بخيالى أفكار غريبة عن قصص تعذيب الحيوان وإيلامه بهذه الصورة القاسية . طاف ببالى لو أن أهل هذه البلاد يعذبون الحيوان هكذا .
فما بال الإنسان ….. عندما علمت بأن اليوم بالنسبة لى راحة من العمل ، أثرت تعويض ساعات اليقظة الإجبارية التى أمضيتها فى ليلة البارحة . إلا أن النوم عاندنى وطفقت أفكار أخرى تناوشنى وتلح على تفكيرى . صور أهلى وأولادى وهم واقفون على الرصيف يلوحون لى ، البعض يلوح مبتسماً كأنما أنا ذاهب فى نزهة ، والآخر يلوح وإشارات يده تعبر عن اللوعة والدموع تنهمر من عينيه . أما الأطفال فراحوا يمرحون فى وداعهم لى ضاحكين . كانت رحلة العمل هذه محاطة من بعض زملائى بأحاسيس الغيرة التى قد تصل إلى حد الحسد أما البعض الأخر فكان متضامناً معى يؤازرنى فى هذه الرحلة التى يعلم المقرب منهم لى أننى أذهب فيها على غير رغبة منى ، بل أذهب مجبراً ……..

لحظة تحرك الحافلة أحسست كأنها تنزعنى من أرضى وأهلى ومنطقتى وشارعى وإشارات مرورى ، محلاتى ، ناسى، صخبى ، ألوانى وكل شىء ، أحسست أنها تنزعنى بإصرار من كل الخيوط التى تربطنى بعالمى وتمضى بقوة ، قوة غريبة . تدفعها إلى التقدم ثم التقدم ثم التقدم والأستمرار فى التقدم . كل الطرق صارت سهلة هينة تحت إطاراتها القوية ، كل الطرق صارت مطوية ومخترقة من هذه التى تشق الطريق بقوة غير مألوفة وهى تحملنى بعيدا . كأن جناً يدفع بها بعيداً بعيداً إلى أرض لم أطأها من قبل وأناس لم أعرفهم  بعد . كل هذا والساعات تمضى بقوة كأنما تنتزعنى إنتزاعاً كأننى أمسك بيدى فى كل شىء أراه حولى . وهى تشد يدى معها وتبتعد . فتطول اليد ، فتشد أكثر، فتطول اليد أكثر ، فأكثر فأكثر وتشدنى وتشدنى وتشدنى …….

بعد أن عمت  الشمس الأركان ، وبدت الدنيا من حولى مكاناً صحراوياً تتناثر عليه كثبان صغيرة مخضرة تملأ ذلك البراح المحيط بموقع العمل . لاحظت الخضرة والصفرة تملأ المكان الساكن بشكل لافت للنظر حتى أننى ربطت بين لون علم البلاد الأخضر وإنتشار هذه الخضرة. نهق الحمار مرة أخرى وأشتد نهيقه بقوة فملأ المكان وأستمر لبعض لحظات
ثم همد ثانية .. عن لى أن أسأل عن سر هذا الصوت؟  شعرت بألم فى ذراعىَ. يبدو أن شداً ما قد أثر فيها كثيراً.. عاد النهيق يتوالى فى الأفق ، فيذكرنى بوليد يعانى معاناة يعجز عن الإفصاح عنها بغير هذه الوسيلة . كان الصوت يتماوج قاصياً ودانيا كأن دوامات الهواء تحمله من بعيد إلى هنا ثم تعود به إلى هناك . قبل ساعة المغيب مر بعض الأولاد بحمار يحمل ثمار البطيخ ذى القشرة المخططة باللونين الأخضر والأصفر؛   ويسمونه هناك (  دِلاَع ) عرضوا علينا الشراء . عن لى سؤالهم عن ذلك النهيق الذى تصادف وطفق يتواصل فى الفضاء . أجابوا بأن صغير الحمار هذا أخذوا أمه لتعمل مع السعى الإبل والماعز فى مكان غير قريب . ولهذا فالحمار منذ تركته أمه وهو على هذه الحالة . أشتريت منهم واحدة من ثمار البطيخ . لعل حلاوتها تذهب عن نفسى بعضاً من ذلك الألم الدفين الذى عاود ذراعى مع إرتفاع صوت النهيق فى هذا الفضاء الفسيح …….

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :