اسْتِقَامَةُ بِيزَا الفصل الخامس

اسْتِقَامَةُ بِيزَا الفصل الخامس

قصة / جود الفويرس

العودة.

في شارعٍ طويل يُظلّل على منازلِ قاطنيه بالطّيبِ العطرِ من الياسمين والفل، كانت فتاةٌ كشجرةِ الحنّاءِ، طيّبةٌ وعطرة، تقف في الشّرفة وعلى أسمالها أفراح جمّة لا تنضبُ ولا تنقطع، جلست سلمى على الكرسي، تضربُ بجذورها في أعماقِ الأرضِ، وترفع بفروعِها نحو السّماءِ، تُخاطب الله، تناجيه، وتحسب في دعائها أحبّتها جميعهم، حتّى بيزا؛ تلك الرّوح التي ظنّتها في بُعدها الآخر. في تلك اللحظة تحديدًا وبصدرٍ مختلج وممتلِئٍ بالكثير؛ كان حسن يجرُّ حقائبه خارجَ المطار، وشعورُ الوصولِ يحثّه على خوضِ سباقٍ مع خطواته، أراد أن يكون هو قدميه يقودُ نفسَه بسرعةِ عواطفهِ، لا أن تقودَه قدماه بسرعةِ قدرتها، وبعد أن كاد أن يسقط متعثّرًا في زحامِ الواصلين ومستقبليهم؛ سار بعيدًا عنهم يستقبله الحنين، ويحضنه الاشتياق، يبكي وحدَته الموحشة. مدّ حسن بيده النّحيلة في منتصف الطّريق آملًا أن تتوقّف له سيّارة أجرة، ركب إحداها وأخبرَ سائقها بوجهته المحدّدة؛ دالًّا إيّاه على عنوان البيت كشيءٍ في قلبه. قامت سلمى تطحن البُنّ وتخلطه بشيءٍ من الهيل، وفيما كانت تدورُ على نفسِها في المطبخ تخلط هذا وتعجن ذاك، تذكّرت ما دار بينها وبين عماد من حديثٍ حين هاتَفَها الليلة الماضية، كان قد وصل حديثًا من بروكلين ولم يلتقيا بعد، قال لها: “البروفسور دانييل عرض عليّ عرضًا مغريًا كما تعلمين، وأنا يا عزيزتي قد فُتنت به، رُبما هذه فرصة عمري التي لم أكن أنتظرها حتّى، ولكن هدايا القدر لا ترد، كيف أردُّ على الله شيئًا كهذا؟، بالله عليك أخبريني!، في النّهاية أنا لا أودُّ أن أستعجل شيئًا، سأزوركِ غدًا أنت والوالدة وسنتحدّث في الأمرِ جميعًا، اتّفقنا؟”، أغلق السّماعة بعد أن ذكّرها بأنّه يحبها كثيرًا، ثمّ غاص في وسادته دائخًا، يشخرُ أتعابَ سفره. حطّت السيّارة بحسن في رأسِ الشّارع، أراد أن يسيرَ ليهدّئ من روعه قليلًا، “تبًّا” قالها حسن وهو يمسح دموعَه السيّالة، ثم تمتم بشاربه المرتخي من الزّعل قائلًا: “ما بال هذا الدّمع الآن؟”، وقف أمامَ البابِ وقلبه في حلقه، أيطرق باب سلمى – ابنة الجيران – الآن أم يؤجّلها؟، كان يشحن نفسه بأسلاكِ التّشجيعِ طوال الرّحلة، أتبور كلّ طاقاته الآن؟، أيذهب لمنزله أولًا، يستنجد بأمّه ويتّخذها وسيطًا للصلح؟، طرق البابَ وأفكاره تدفعه، فاردًا ظهره كالأسد، أحمرَ العينين، محتقنًا ومتأثرًا كملكِ غابةٍ جريح، يكابر على نفسه في كلّ شيءٍ، حتى ألمه. رنّ الجرس، فما كان من سلمى إلاّ أن تقف على المرآة مؤكّدةً حُسنَ مظهرها، طارت كرغوةٍ ناعمةٍ نحوَ الباب، ثمّ ادّعت الثقل والرّصانة قبل أن تفتحه. فتحتْ الباب؛ فكان الواقف أمامها بيزا، حاضرًا في موجة تسونامي عملاقة، إعصارٌ حميد يدّمر ما سلف من البُغض، بكت، بكى، ورغم لسانه الذي ألجمه الصّمت كانت سلمى تَسمعُه يناديها كعهده سابقًا، في أذنها تردّد صوته القديم وهو قادم ليصطحبها صباحَ كلّ يومٍ إلى المدرسة: “هيّا سرّحي جدائلَ شعرك بسرعة قبل أن يقتلنا الأستاذ خالد!”، كادتْ أن تردّ وتقول: “حسنًا أنا قادمة!”؛ لكنّه قال أعتذر قبل أي شيء، وما كان لها إلاّ أن تومئ برأسها كعلامةٍ للقبول، وأن تبتسم في وجهه مُهلّلة ومُرحّبة. على مسافةٍ ليست ببعيدةٍ من البيت، كان عماد يرتدي بزّته الأنيقة، حاضرًا في طلّة العريس المستقبليّ، يمسك بالورد وهدايا أمريكيّة عديدة لحبيبة قلبه، تقدّم من الباب وهو ينظر إلى ذاتِ الشّاب النّحيل، والذي يبدو بأنّه عاد إلى نفسه سريعًا، رآه واقفًا على قدميه، كمبنًى قديم لا تهيبه آثار الزمّن المتعدّدة، علم بأنّه بيزا الذي حدّثته عنه سلمى كثيرًا، والذي التقى به صدفةً في بروكلين، علم بأنّه الآن محظوظٌ بما يكفي حتّى يشهد استقامته.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :