- إدريس أحميد صحفي وباحث في الشأن السياسي والدولي
تدخل الأزمة الليبية عامها الخامس عشر دون أن يلوح في الأفق أي حل حقيقي يُفضي إلى بناء دولة ديمقراطية كما حلم بها الليبيون الشرفاء.
ورغم مرور كل هذه السنوات، لا تزال الأسئلة الكبرى نفسها تتكرر:
هل يمتلك الليبيون الوعي الكافي بمعنى الدولة التي ينشدونها؟
وهل يدركون أسس قيامها واشتراطات بنائها، وفي مقدمتها وجود وعيٍ مجتمعي يُسهم في بناء المجتمع قبل الدولة؟
تحولات بلا مراجعة
لقد عاش الليبيون تحولات عميقة، لكنهم لم يُجروا بعد مراجعة صادقة لتاريخهم السياسي والاجتماعي، ولم يُقيِّموا بموضوعية مراحلهم المختلفة.
والسؤال الجوهري الذي يجب طرحه هو: هل نملك ثقافة سياسية تحدد شكل النظام الذي يناسبنا؟
إذا كنا نريد نظامًا يقوم على الانتخابات وتداول السلطة، فهذا يتطلب وعيًا سياسيًا حقيقيًا، وإدراكًا لمعنى المشاركة والمساءلة.
فقد خرج الليبيون من نظامٍ شعبيٍ لم يؤمن بالأحزاب أو الدستور أو الإدارة المؤسسية، وجربوا الانتخابات في عامي 2012 و2014، لكنهم فشلوا في الحفاظ على المسار الديمقراطي واستثماره في بناء الدولة.
وفي عام 2021، كانت هناك فرصة جديدة بموعدٍ دولي لإجراء الانتخابات في 24 ديسمبر، وقد سجل أكثر من ثلاثة ملايين ناخب، لكن الانتخابات ألغيت فجأة دون تفسير مقنع.
والمفارقة أن هذا الإلغاء لم يُقابل بحراك شعبي واسع يدافع عن الحق في الانتخاب، بل اكتفى الناس بصمتٍ أو احتجاجاتٍ خجولة لا تعبّر عن الإرادة الجماعية.
وهكذا، تكرست سلبية سياسية واضحة في مواجهة تعطيل المسار الانتخابي.
فشل التعويل على الأمم المتحدة
لقد أثبتت التجربة أن التعويل على الأمم المتحدة لم يُثمر سوى عن حلول مؤقتة وخارطة طريق تلو الأخرى، لا تُعبّر عن إرادة الليبيين بقدر ما تُجسّد رؤى الدول المتدخلة في الشأن الليبي.
فالبعثة الأممية، رغم تعاقب مبعوثيها، كانت تتحرك وفق توازنات مجلس الأمن المنقسم على نفسه في عديد الملفات، ومنها الملف الليبي.
ومن هنا، بات واضحًا أن الحل الحقيقي يجب أن يكون ليبيًّا – ليبيًّا، يقوده أبناء الوطن الذين فهموا الواقع وتعقيداته، وأدركوا أن المسار السياسي الحالي معقدٌ بطبيعته، ولن ينتج حلولًا دائمة بل تسوياتٍ وقتية تؤجل الانفجار ولا تمنعه.
لسنا أوصياء على الليبيين، لكننا نؤكد أن جميع الليبيين يتطلعون إلى سلطة قوية تحقق الاستقرار والتنمية والعدالة.
وفي الوقت ذاته، يتمسكون بالخيار الديمقراطي كمسارٍ موازٍ، ليجتمع الأمن والديمقراطية في معادلةٍ متوازنة تُعيد للدولة هيبتها وللمجتمع تماسكه.
الواقع الداخلي والانقسام القائم
لقد أدت الأزمة إلى تدهور اقتصادي خطير جعل الليبيين منشغلين بقوت يومهم أكثر من انشغالهم بمستقبلهم، فاكتفوا بالنقاش عبر مواقع التواصل الاجتماعي دون فعلٍ حقيقي.
ورغم أن الجميع يريد الحل، إلا أن الاختلاف حول وسيلته هو ما يطيل عمر الأزمة:
فمنهم من يرى الحل في صناديق الاقتراع، ومنهم من يطالب بوجود سلطة قوية تنهي الفوضى وتفرض الأمن بعد فشل المسار السياسي الحالي.
الحل المتاح
يمكن القول إن المنطقة الغربية، خصوصًا العاصمة، تعاني انفلاتًا أمنيًا بسبب انتشار السلاح خارج شرعية الدولة، ووجود كتائب مسلحة تسيطر على القرار الحكومي.
بينما تعيش المنطقتان الشرقية والجنوبية حالةً من الاستقرار بفضل دور القوات المسلحة الليبية التي تمكّنت من فرض الأمن والنظام، وهو ما يعترف به كثير من المواطنين في الغرب أنفسهم.
لقد أدرك الليبيون اليوم أن الاستقرار الأمني هو مفتاح الحل، وأن استمرار الأجسام السياسية الحالية لا يخدم إلا مصالحها الخاصة.
فلا يمكن أن تُبنى دولة والسلاح خارج السيطرة، ولا يمكن أن يتحقق الاستقرار في ظل مجموعاتٍ تتقاتل على النفوذ وتروّع المدنيين.
إلى متى نبقى نسير وراء الحجج والذرائع التي تبرر استمرار الأزمة، بحجة أن “الوقت كفيل بالحل”؟
لقد أثبتت التجربة أننا نفتقد إلى أبسط أبجديات الوعي والإدراك، مما جعل الأزمات والفوضى تتفاقم بشكلٍ ممنهج ومقصود للسيطرة على مقدرات البلاد.
نحو رؤية واقعية للحل
إن توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية يمثل أولوية قصوى، ولا يمكن لأي مشروعٍ سياسي أن ينجح دون أمنٍ منضبط.
معظم المناطق الحيوية اقتصاديًا تحت سيطرة الجيش الوطني، الذي قام بجهودٍ واضحة في حفظ الأمن وتأمين منابع النفط، المصدر الرئيسي لاقتصاد البلاد.
يجب الاستفادة من دروس الانتخابات السابقة، وأن ننحاز لمن يسعى فعليًا إلى إنهاء الفوضى، بدل الاستمرار في دعم أطرافٍ تُمارس الفساد وتُسيطر على الاقتصاد وتُضلل الرأي العام.
إن دعم القيادة العامة للجيش الليبي يُعدّ اليوم الخيار الواقعي الوحيد لإنقاذ البلاد، لما أظهرته من قدرةٍ على فرض النظام، وحماية الموارد، والمضي في مشاريع الإعمار والتنمية.
أما ما عدا ذلك، فهو استمرارٌ في الدوران داخل حلقةٍ مفرغة، وضياعٌ للوقت، وتفاقمٌ للأزمات، خاصة الاقتصادية منها.
ولا يعارض هذا الاتجاه إلا من له مصلحةٌ في بقاء الأوضاع كما هي، لأنهم يدركون أن قيام دولةٍ قوية يعني نهاية نفوذهم ومصالحهم.














