دعبير خالد يحيي
كالدولاب الدوّار في مدينة الملاهي ذي المقصورات العديدة, التي تتناوب بين صعود وهبوط حول محور أفقي، ما تزال الحلقة المعدنية تدور حول سبابتها.. تتباعد مفاتيحها بفعل الدوران المنتظم، وعند اصطكاكها ببعض تصدر رنينًا كأصوات ضحكات الأطفال، وصيحات الإثارة، لتأتي لحظة التوقف الفجائي!
وهنا تحلّ صرخات الفزع، يتفلّت المحور من مكانه، وتدور الحلقة بفوضى, تقذفها يدها إلى الأعلى لتسقط سقوطًا حرًّا باتجاه الأرض، لكن اليد التي قذفتها تعود لتنقضّ عليها انقضاض وحش على فريسة, قبل أن تصل إلى الأرض, ويعلو صراخ المفاتيح بهلع ، ليصمتوا بعدها في باطن يدها التي تعتصرهم بقهر كلّ سنوات عمرها…
على الجدار المقابل، ثلاث صور علّقت بمسافات منتظمة، كلّها تبتسم !الصورة الكبيرة توسّطت الصورتين الأصغر حجمًا.
كانت فاطمة شابة على قدر كبير من الجمال، تدرس الهندسة المدنية في مدينة بعيدة عن مدينتها الساحلية الصغيرة الوادعة، أحمد يدرس معها بنفس الكلية، شاب خلوق، على قدر معقول من الوسامة, من أسرة كريمة، عندما تقدّم لخطبتها عارض أهلها لسبب واحد, هو أنه غريب عن مدينتهم، والأهل عادة يخافون من الغريب، لكنها أقنعتهم بأنه الشريك المناسب والذي اختاره عقلها وقلبها لتكمل معه حياتها، تزوّجا, وانتقلا للعمل في مدينة حديثة الإنشاء, كانت تستقطب الكثير من الكوادر الشابة, كون المشاريع القائمة فيها تحتاج الكثير من المهندسين والأيدي العاملة، برواتب ممتازة لا تتوفّر في أماكن أخرى، مع توفير السكن اللائق، والكثير من الحوافز …
كان نتاج الخمس سنوات الأولى من زواجهما, أيمن باكورة العطايا، طفل قوي البنية، يشع ذكاء وفطنة، توّج حبهما بإكليل من سعادة غامرة، لتأتي بعده ريم، نسخة أنيقة بجمال فاطمة، تحمل صولجان فرح وحياة، وهكذا اكتملت المملكة، ملك وملكة، أمير وأميرة، وحاشية من فرح وسعادة و رضى.
جاء هادم اللذات وسافر بالملك بعيدًا عن مملكته .. سقط من أعلى السدّ الذي كان مشرفًا على تنفيذه .. مات أحمد .. وترصّعت صدارة الصالة بصورة كبيرة له، في أعلى يسارها شريطة سوداء, وأعلنت فاطمة الحداد عليه، مرتدية السواد مدة فاقت ما حدّده الشرع بسنوات عديدة …! عشرون عامًا. . وجدت نفسها تتحوَّل إلى عاملة، وقيّمة شرعية على ولديها، الشركة التي كان يعمل بها أحمد عرضت عليها عملًا جيدًا بمرتب ممتاز، هي أصلًا كانت تعمل بالشركة، لكن عندما كثرت عليها مسؤوليات البيت والطفلين آثرت أن تتفرّغ لتلك المسؤوليات…
وضعت نصب عينيها مستقبل ولديها، قرّرت ألا تجعلهما يمرّان بأي عَوَز، رفضت كلّ المساعدات التي قدّمها أهلها والعديد من الأصدقاء، بكياستها المعهودة أخبرتهم أنها تفضَّل أن يكبر أولادها براتبها وراتب أبيهما التقاعدي.
مصروف البيت كان من راتبها، أما الراتب التقاعدي فقداستطاعت إدخاره وبدأت به مشروعًا صغيرًا.. مشغلًا صغيرًا للملابس، سرعان ما توسَّع ليصبح معملًا صغيرًا, الإيراد الذي كان يأتيها من المعمل تدخر معظمه لتشتري لولديها عقارات، لكل منهما بيت ومكتب، تريد تزويج أيمن حال تخرّجه، لا شيء يمنع، فهو وحيد ومعفي من خدمة العلم، تحلم برؤية أحفادها منه، تتخيّلهم يتصايحون بفرح وشقاوة، ستأخذهم إلى مدينة الملاهي، تلك التي أُنشئت حديثًا في البلدة…
سيتخرّج قريبًا من كلية الهندسة، اختار كلية الهندسة تيمّنًا بها وبأبيه، وقد وعدته أن تخلع السواد يوم تخرجه… أما ريم، فقد اختارت كلية الطب، ما زال الطريق أمامها طويلًا لتنهي دراستها، ست سنوات دراسة أساسية تليها ثلاث سنوات اختصاص، وقد يأتي نصيبها، وتتزوّج لكن ليس قبل إتمام الدراسة الأساسية، تدعو الله أن تطمئن عليها في كنف زوج طيب محب حنون …
وتخرَّج أيمن، وخلعت فاطمة السواد، وارتدت ثوبًا رماديًا تفتّحت عليه ورود بلون الزهر، مشّطت شعرها المعقوص بتسريحة كانت المفضّلة عند أحمد رحمه الله، كل من رآها في ذلك اليوم قال عنها ملكة … لكن … إلى متى ؟!
لم يمضِ وقت بعد تخرجه، حتى كانت الطعنة، أيمن سيغادر إلى كندا، حيث تنتظره الفتاة التي وقع في هواها عبر وسائل التواصل الإجتماعي، وهيّأت له كل الأوراق، لم يبقَ عليه سوى الحضور…
ابتلعت مرارتها بغصّة كادت تخنقها! كان ذاك ثاني مسمار يُدقّ في نعش سعادتها! حوقلت واحتسبت، ودّعته وداع من لن تراه مرة أخرى ..وتسلّقت صورته الجدار إلى يمين أحمد.
ودارت السنوات سريعًا، ليأتيَ تخرّج ريم مترافقًا مع خطوبتها لشاب كان زميلها في الكلية، والزواج خلال وقت قياسي، والسكن …؟
في إحدى الدول الخليجية حيث يقيم أهل العريس ..واستقرت صورتها مناظرة لأيمن ..
تبدأ فاطمة يومها بطقوس ملّتها.. حلقة مفاتيح (الشقتين والمكتبيين) في يدها كالمسبحة .. نظراتها على الصور قبالتها..
في هذا اليوم ختمت طقوسها بارتداء ثوبها الأسود القديم…