- موسى الاشخم
ينصرف الانكشاف الاقتصادي على الخارج إلى الحالة التي تكون فيها للعوامل الاقتصادية الخارجية المؤثرة في الاستقرار الاقتصادي للدولة غلبة على العوامل الاقتصادية الوطنية أو المحلية، وهي الحالة التي يسهل فيها تعرض البلاد إلى التجاذبات والضغوط الاقتصادية والأمنية الخارجية، وتزداد فيها فرص التأثير على قراراتها السيادية. وغالبا ما يؤدي هذا الانكشاف الاقتصادي على الخارج إلى تأثيرات سلبية على معدلات النمو والاستقرار الاقتصاديين للدول على نحو عام، وللدول ذات الاقتصاد الهش أو الضعيف على نحو خاص. بل قد يؤدي إلى فقدان البلدان الأخيرة للسيادة الوطنية جزئيًا أو كلياً.
عوامل الانكشاف الاقتصادي:
ثمة عدة عوامل تساهم في تعزيز درجة الانكشاف الاقتصادي على الخارج نذكر منها:
- التبعية الاقتصادية.
- نسبة التجارة الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي.
- درجة تركز الصادرات والواردات.
- درجة اعتماد الصادرات على المواد الأولية.
- مدى استقرار سعر صرف العملة الوطنية.
- مدى تحقق الأمن الغذائي
- مدى تحقق الأمن المائي
- مدى تحقق أمن الطاقة.
أولاً- التبعية الاقتصادية للخارج:
تنصرف التبعية الاقتصادية للخارج إلى الحالة التي لا يمكن لعجلة الاقتصاد الوطني أن تدور دون دفع من الخارج، وساهمت نظريات المزايا النسبية والمزايا المطلقة ونظرية العولمة، ونظرية تنمية الصادرات أو التوجه نحو التصدير، وكذلك الاستشارات الاقتصادية الغربية والأممية في تعميق حالة التبعية الاقتصادية للمستعمرات السابقة للقوى الكبرى الدولية ذات الماضي الكولنيالي والحاضر الامبريالي.
وتتحقق التبعية الاقتصادية حين يتم الاعتماد على نحو رئيسي على صادرات الدولة من المواد الخام لتحقيق توازن الميزان التجاري وميزان المدفوعات، أو حين يتم توطين حلقة واحدة من كل سلسلة صناعية لصناعة سلعة ما بالدولة المعنية دون توطين بقية الحلقات بها؛ بحيث لا يمكنها لتلك الحلقة أن تستقل عن بقية الحلقات التي تم توطينها في الخارج، أي لا يمكن لتلك الدولة أن تستمر في انتاج تلك السلعة دون الاعتماد على مدخلات يتم انتاجها في بلدان المركز الرأسمالي أو حتى في بلدان آخرى. وهذا ما حرص عليه صانعو السياسات والقرارات في المراكز الرأسمالية، إذ حرصوا على ألا يتم توطين سلسلة صناعة ما بكاملها في مستعمرة سابقة، حتى لا تستقل تلك الدولة بقراراتها الاقتصادية عن المركز الرأسمالي. ويمكننا قياس درجة التبعية الاقتصادية بنسبة الصادرات من المواد الخام إلى إجمالي الصادرات لدولة ما، وكذلك بنسبة العناصر الأجنبية الموردة من الخارج في مدخلات صناعاتها الوطنية. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن مقاييس التبعية الاقتصادية تتأثر بمدى استقلالية القرار السياسي أيضاً؛ حيث لا يمكن الوصول إلى استقلال اقتصادي في ظل تبعية سياسية والعكس أيضًا صحيح. ويعاني الاقتصاد الليبي من درجة تبعية عالية حيث تتركز الصادرات الليبية في المواد الخام على نحو عام وفي الغاز والنفط ومشتقاته على نحو خاص، كما تشكل العناصر الأجنبية نسبة كبيرة من الصناعات الليبية، إذ يمكننا الجزم بأنه لا تكاد توجد صناعة تتكامل سلسلة مدخلاتها ومخرجاتها في الداخل الليبي.
ثانياً- نسبة التجارة الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي:
كلما زادت نسبة التجارة الخارجية إلى الناتج المحلي الإجمالي، أو كلما زادت درجة الانفتاح الاقتصادي كلما دل ذلك زيادة درجة الانكشاف الاقتصادي على الخارج؛ حيث ستنعكس أية اضطرابات في السوق الدولي سلبًا على الاقتصاد الوطني، وبلغت نسبة التجارة الخارجية إلى الانتاج المحلي الإجمالي في ليبيا على سبيل المثال لا الحصر في عام 2022م حوالي 146.3%، بينما بلغت حوالي 67.5% في عام 2024م. وهو ما يشير إلى ارتفاع درجة الانكشاف الاقتصادي الليبي على الخارج وفقا لهذا المعيار. ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أن ارتفاع درجة الانفتاح الاقتصادي بالنسبة للدول الصناعية وذات الاقتصاد القوي لا تتسم بنفس الخطورة، وإن كانت ذات تأثير سلبي عند تعرض الدولة الكبرى للعقوبات الاقتصادية أو للحصار الاقتصادي، ويتأتى ذلك عند دخولها في حروب وصراعات مع دول كبرى منافسة لها، كما حدث لروسيا خلال الأزمة الاوكرانية.
ثالثاً- درجة تركز الصادرات والواردات:
كلما زادت درجة تركز الصادرات والواردات كلما زادت درجة الانكشاف الاقتصادي للدولة على الخارج، ولتركز الصادرات والواردات وجهان: يعنى الأول بالتركز النوعي للصادرات والواردات، ويعنى الثاني بالتركز الجغرافي لها. وفي حين يعد التركز النوعي للصادرات مؤشرًا على زيادة معدل الانكشاف الاقتصادي على الخارج لا يعد التركز النوعي للواردات كذلك. وتعاني البلدان النامية أو الاقتصاديات الضعيفة من تركز صادراتها في المواد الأولية، وهو ما يجعل ميزانياتها عرضة للاختلال عند تدني أسعار تلك المواد، والتي عادة ما تتواطأ الدول الصناعية لتحديد أسقف سعرية لها من جهة، وتعمل على ابتكار مواد أولية صناعية بديلة لها من جهة آخرى. بل وتمارس ضغوطًا سياسية على البلدان المنتجة للمواد الأولية ترمي إلى تجميد أو حتى تخفيض أسعار تلك المواد. بينما يحمّل اقتصاديو الغرب كل أزماتهم الاقتصادية كالتضخم والتباطؤ والركود والتضخم الركودي إلى الارتفاع المزعوم في أسعار المواد الأولية وعلى نحو خاص أسعار النفط. رغم أن المواد الأولية تباع بسعر أدنى من السعر التوازني أو السعر الطبيعي لها، وذلك بفعل التسقيف الغربي لأسعارها. ثم يجهد بعض اقتصاديي الجنوب انفسهم لاستحداث نظريات ترجع تدني أسعار المواد الأولية إلى أسباب اقتصادية تربطها بالاختلاف في مرونات الطلب الدخلية بين السلع الأولية والسلع الصناعية*.
ووصلت درجة تركز الصادرات في ليبيا عام 2022م إلى 96%، لمصلحة الصادرات من النفط والغاز، بينما بلغت عام 2024م إلى 93%. وهو ما يشير إلى ارتفاع درجة الانكشاف الاقتصادي على الخارج وفقاً لهذا المعيار. كما تعاني جل البلدان النامية من التركز الجغرافي للصادرات، وهو ما يزيد من حدة الانكشاف الاقتصادي على الخارج؛ حيث بلغت نسبة التركز الاقتصادي للصادرات الليبية لدول الاتحاد الأوربي (والتي قد لا تزيد عن ثلاث دول من دول المجموعة ) 74% عام 2022م، بينما بلغت 80.5% عام 2024م. وهو ما يجعل الاقتصاد الليبي في مهب الريح عند مجرد فرض عقوبات أوربية على ليبيا أو حتى استبدال واراداتهم من النفط والغاز الليبي من مصادر آخرى.
رابعاً- درجة اعتماد الصادرات على المواد الأولية:
يعد اعتماد الصادرات على المواد الأولية أحد أهم العوامل التي تزيد من حدة الانكشاف الاقتصادي على الخارج؛ حيث تتميز أسعار المواد الأولية بالتدني والتذبذب للاسباب التي ذكرناها آنفا: كالتسقيف السعري الذي تفرضه البلدان الصناعية الغربية، ومنافسة المواد الأولية الصناعية للمواد الخام. ولقد بلغت نسبة صادرات النفط والغاز إلى أجمالي الصادرات في ليبيا عام 2022م حوالي 96% بينما بلغت في عام 2024 حوالي 93%. وهو ما يؤكد ارتفاع درجة الانكشاف الاقتصادي الليبي على الخارج وفقاً لهذا المعيار.
خامساً – سعر صرف العملة:
يعد تدني سعر الصرف أو حتى مجرد تدبدبه، من ضمن العوامل التي تزيد من هشاشة الوضع الاقتصادي للدولة أو من درجة الانكشاف الاقتصادي تجاه الخارج. ولا يوجد سبب اقتصادي وجيه لتدني سعر صرف عملة وطنية ما طالما ثمة صادرات كافية لعدم حدوث عجز بالميران التجاري أو ميزان المدفوعات. غير أن مازق تدني أسعار العملات الوطنية في البلدان النامية متأتي من استشارات اقتصادية غربية وأممية مفخخة، ترمي إلى إبخاس موارد الأمم النامية وسرقة عرق وجهد عمالها. وساهم في تعميق تلك الخديعة تدوير أو “رسكلة” اقتصاديي البلدان النامية لأراء ونظريات الاقتصاديين الغربيين على نحو عام، وفيما يتعلق بإخراج العملات الوطنية للبلدان النامية من التداول الدولي على نحو خاص. ويعد هذا الإقصاء للعملات الوطنية من التداول الدولي هو الطامة الكبرى التي تبخس قيمة الانتاج الوطني للبلدان النامية قيمته كما تبخس عرق وجهد مواطنيها في ذات الوقت، وتيسر تمامًا عمليات النهب المنظم لموارد وثروات البلدان النامية في مقابل أوراق نقدية لا تتجاوز قيمتها ثمن الورق والحبر الذي انفق لطباعتها، منحتها السلطات الغربية والنخب المالية الغربية صفة العملات القابلة للتداول في السوق الدولي. وحين يتم إخراج العملة الوطنية من التداول في السوق الدولي تصبح سلعة لا طلب دولي عليها ومن ثم ستعاني من سقوط حر لا قرار له. وإمعانا في المكر توصي المؤسسات المالية الدولية كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي حكومات البلدان النامية ومصارفها المركزية، بتعويم عملاتها وعدم التمسك بنظام أسعار الصرف الثابتة كعلاج لأزماتها الاقتصادية والمالية، ولتدهور سعر صرف عملاتها الوطنية وهو ما يفاقم من ذلك السقوط الحر لتلك العملات على طريقة دواني بالتي كانت هي الداء. ونتيجة لهذه الاستجابة لتلك الاستشارات المحلية والدولية يتدنى سعر صرف الدينار الليبي باستمرار؛ حيث يصل في السوق الموازية إلى حوالي سبعة دينارات للدولار الواحد. وتكمن خطورة تدني سعر صرف العملة الوطنية في سهولة شراء ذمم مواطني الدولة المتدنية عملتها، ومن ثم يتيسر إفسادهم ماليًا وإداريًا، كما يسهل تجنيدهم من قبل الاجهزة الأمنية وأجهزة استخبارات الدول الأخرى، الأمر الذي يؤدي بالإضافة إلى الانكشاف الاقتصادي إلى انكشاف الدولة أمنيًا تجاه الخارج. ولا فكاك من هذا المأزق الذي يزيد من حدة الانكشاف الاقتصادي والأمني تجاه الخارج، ويبخس من ثم قيمة مواردنا الاقتصادية والبشرية إلا بإلزام مستوردي النفط والغاز بل ومستوردي كافة السلع الوطنية بالدفع بالدينار الليبي، شريطة أثبات شراء العملة الوطنية من مصرف ليبي معتمد.
سادسًا – الأمن الغذائي:
كلما اعتمدت دولة ما على تأمين غذاء سكانها على نحو عام وعلى تأمين القمح ودقيق القمح على نحو خاص على الخارج كلما تهدد الأمن الغدائي الوطني، ودل ذلك على تزايد درجة الانكشاف الاقتصادي على الخارج. وهو ما لمسناه إبان الأزمة الاوكرانية حيث ارتفعت أسعار دقيق القمح على نحو كبير بسبب الحرب الاوكرانية الروسية، بل وحالت ظروف الحرب والعقوبات الاقتصادية دون وصول الصادرات الروسية والأوكرانية من القمح ودقيق القمح إلى السوق الدولي أو إلى أسواق البلدان المستوردة لهما. وبلغت نسبة المواد الغذائية إلى إجمالي الواردات في ليبيا عام 2022م حوالي 20.2%، بينما بلغت عام 2024م حوالي 21.8%. وهو ما يؤكد تدني مستوى الأمن الغذائي من جهة، وارتفاع درجة الانكشاف الاقتصادي على الخارج وفقاً لهذا المعيار من جهة آخرى.
سابعًا – الأمن المائي:
يعد تأمين امدادات المياه في دولة ما غاية في الأهمية، كما يعد النقص في إمداداتها مضر بالأمن الوطني، ويعرض الدولة للانكشاف على الخارج عند احتياجها لمصادر مياه من خارج حدودها، حيث يتأتى تعويض النقص في امدادات المياه من مصدرين: الأول: توريد المياه من البلدان المجاورة. والثاني: بناء محطات تحلية المياه. وكلا المصدران يساهمان في زيادة الانكشاف المائي على الخارج حيث تتحكم دول الجوار في المصدر الأول، وتتحكم الدول المصنعة لمحطات التحلية في المصدر الثاني. ناهيك عن التأثير السلبي لنقص المياه على الزراعة؛ حيث يرتبط الأمن المائي بالأمن الغذائي ارتباطًا وثيقًا. ومن ثم فإن شح المياه سيؤدي الى الاضرار بقطاع الزراعة، وهو ما يعرض الأمن الغذائي أيضًا للخطر.
وتعمل عدة عوامل على تقليص الموارد المائية المتاحة في ليبيا نذكر منها: التغيرات المناخية والجفاف، وقدم شبكات المياه وانتهاء عمرها الزمني. والتوسع العمراني والصناعي غير المصحوب بزيادة مصادر المياه.ةالأمر الذي يعرض البلاد إلى هشاشة الأمن المائي وزيادة درجة الانكشاف الاقتصادي والأمني نحو الخارج؛ حيث تعد ليبيا من بين أكثر البلدان شحاً في موارد المياه في العالم. وتشير التقديرات السابقة الى أن حاجة البلاد من المياه خلال هذا العام 2025 لا تقل عن 8 مليارات متر مكعب من المياه، في حين لا يتوفر منها اليوم سوى حوالي نصفها على أحسن الفروض.
ثامنًا- أمن الطاقة:
يعد النقص في مصادر الطاقة المحلية من بين العوامل التي تزيد من حدة الانكشاف الاقتصادي والأمني تجاه الخارج، وعلى الرغم من توافر احتياطيات ضخمة من النفط والغاز، وتمتع البلاد بطقس مشمس على مدار العام تقريبًا، فإن ليبيا تعاني من نقص شديد في الطاقة الكهربائية نتج عنها عدم استقرار امدادات الكهرباء وتزايد معدلات طرح الأحمال من جهة، وعدم كفاية مصافي النفط لتغطية الحاجة المحلية للوقود من جهة آخرى. ويعمل العاملان: عدم كفاية إمدادات الطاقة الكهربائية، والاعتماد على توريد مشتقات النفط في تأمين الوقود اليحفوري على زيادة درجة الانكشاف الاقتصادي الليبي تجاه الخارج.
أخيرًا كافة هذه العوامل المساهمة في زيادة درجة انكشاف الدولة الليبية إلى الخارج تقتضي ضرورة وسرعة المعالجة، ولنا عودة لبحث أوجه أخرى لانكشاف البلاد على الخارج وسبل معالجتها بإذن الله.
*إشارة إلى فرضية بريبيش- سنجر.














