البُعد المعنوي للمكان في رواية “قصيل” لعائشة إبراهيم

البُعد المعنوي للمكان في رواية “قصيل” لعائشة إبراهيم

 كتبه :: عمر عبد الدائم

على الرغم من أنّ رواية “قصيل”  للأديبة عائشة إبراهيم روايةٌ مكانية بامتياز من الناحية المادية ، إلا أنّ المكان المعنوي يحتل مساحةً لا بأس بها داخل الرواية ، وإن كان يتناثر في صفحاتها ، ويندسّ بين سطورها .

لذلك ، قررتُ أن أتموضع  ــ من خلال قراءة خاصة للرواية ــ في زاوية معينة محاولاً اصطياد تلك الأماكن المعنوية والتي دسّتها الكاتبة المبدعة بذكاءٍ ــ وربما بدهاء ــ في ثنايا الرواية .

وسوف أقسّم الأمكنة المعنوية في هذه الورقة إلى أربعة أقسام هي : ــ

1 ــ البُعد التاريخيّ للمكان .

2 ــ البُعد الإجتماعيّ للمكان .

3 ــ البُعد السياسيّ للمكان .

4 ــ البُعد الإقتصاديّ للمكان .

 14971772_883731621762975_444252892_n

أولاً : البُعد التاريخيّ للمكان

يشغل البُعد التاريخي للمكان الموضوع الرئيس للرواية ، وهو الموضوع الذي تقوم عليه القصة بكاملها تقريباً ، وأقصد به موضوع إزالة المدينة القديمة و هدم المسجد العتيق الذي تجاوز عمره ثمانمائة عام ..

“قصيل” بطل الرواية يرفض هدم القرية القديمة حيث يجدها جزءاً من ذاكرة التاريخ ، و تراثاً ينبغي المحافظة عليه ، و يستنكر من يخجله وجود هذه المباني القديمة ..

يقول “قصيل ” : لا أتخيل أن أرى أرضاً جرداء ميتة في مكان القرية الحجرية التي اتنفس تفاصيلها و أتمازج مع طينها و أعشق شكل الحشائش الصغيرة التي تنمو في شقوق جدرانها ، ولا يهون علي أن تُقتلع قطعة واحدة من حجارتها التي حفظت ذاكرتي أشكالَها و ألوانَها و رقشها و تعرجاتها ، ولا أتخيل أن يأتي يوم لا أتنشق فيه النسيم البارد المنبعث من جدار الجامع العتيق ، ذلك النسيم الآسر الممزوج برائحة الطين و الجص و المشبع بأرواح المصلين المحلقة في رحابه .. أرواح جدودي التي غادرت الدنيا و بقيت معلقة بحب المساجد ، تهفو أشواقها مع كل آذان فتمتطي أجنحة شفيفة و تقف بين المصلين ، و مع كل دعاء صالح تقول آمين … في أوقات كثيرة كنت أتساءل عن سر تلك البرودة الناعمة التي ترتحل بعذوبة ولطافة تحت سقف الجامع و تنثر على سجاده البديع المن و السلوى ، و عن سر السكينة الباذخة التي تغمرني كلما ولجت من بابه الخشبي المقوس ، و حين أصعد الدرج الدائري الذي يقود إلى المئذنة ، يغمرني إحساس بأنني أرتقي في مدارج المحبة الإلهية و في كل درجة أخطوها تنسكب علي دفقة من النور تَسّاقط نحوي مباشرة من السماء ) .. انتهى .

هذا الرفض الذي عبّرت عنه الكاتبة بكلّ هذه الشاعرية ، إنما هو رفضٌ لإزالة تاريخ المكان لا ماديّته ، بمعنى آخر أنّ المكان هنا يستمد أهميته المعنوية من التاريخ الذي يعبق به ، وليس من مجرد البناء الماديّ الذي يأخذ حيّزاً في فراغ .

وهنا أودّ أن أشير إلى إسقاط مهم يمكن أن نحدثه من خلال هذه الجزئية على كل عبث بمقدراتنا التاريخية وعلى امتداد مساحات الوطن ..

فما حدث و يحدث من بيع آثار شحات بغية الإثراء السريع ، و قطع أشجار الجبل الأخضر من أجل تحويل تلك الغابات الرائعة إلى قطع أرضٍ للبناء عليها ، وما نشهده من السكن الجائر الذي ابتُليت به المدينة القديمة في طرابلس وهذا البناء المستحدث فيها والذي يصرخ بنشاز بين المباني التاريخية القديمة ، وكذلك الحال في مدن الجنوب القديمة في سبها و جرمة وغيرها ، وهذا التخريب والعبث الذي

طال رسومات جبال أكاكوس والتي تُعتبر أقدم كتابة مكتشفة للإنسان على وجه الأرض ..

كل هذه السلبيات التي طالت الأمكنة التاريخية اختصرتها الكاتبة في رمزية رائعة برفض “قصيل” هدم ذلك المكان الممتد في عمق التاريخ .

ثانياً : البُعد الإجتماعيّ للمكان

في البُعد الإجتماعي للمكان نجد قصيلاً يرفض بشدة مكانه الإجتماعي الذي وجد نفسه فيه بحكم الولادة و النشأة .. كما يرفض التماهي مع ما يريده الآخرون ( والذين يعبّر عنهم بكلمة “الناس” ) ، وهو يعرف أنه الأضعف في هذه السلسلة ، غير أنّ ذلك لم يمنعه من أن يصرح بهذا الرفض أمام والده ( الذي يعتبر رمزاً للسلطة الإجتماعية ) ، هذه السلطة التي تحاول كتم أيّ صوتٍ ينادي بالتحرر من ربقة الآخر .. أي بالإنطلاق نحو فضاء ومكان يكون فيه لرأي الفرد و قدراته المكانة التي تستحقّ من الإحترام .

يقول قصيل ( هكذا دائما عندما أناقش والدي في أمر فإنه يراه من زاوية الناس ، الناس الذين لا يرضون أبداً مهما حرصنا ، رأي الناس هو السلطة المطلقة التي نبني عليها أحكامنا و معتقداتنا  ، علينا أن نفكر دائما ماذا سيقولون ، علينا ان نعيش من أجلهم و نحلم في إطار ما يمنحونه لنا من هامش الحرية ، علينا أن نضبط إيقاعنا مع خطواتهم حتى لا نتعثر أو نسقط في قاع الشك المقيت الذي لا يرحم الفكرة ، يظل يراقبها حتى تينع فيجتثها و يطوحها بعيدا خارج مضارب القبيلة ، و أنا لا يقين لي في تلك المضارب ) . انتهى كلامه .

نلاحظ حجم الإحباط والتذمر الذي يعانيه بطل الرواية من مكانه الإجتماعي الذي يفرض عليه أن يكون إمّعة ، أن يكون شاةً في قطيع ، لا شخصية له ، ولا أمل في الإبداع ..  ، وفي هذا إسقاط لكل من وجد نفسه في هذه الدائرة .

مشهدٌ آخر يصور البعد الإجتماعي للمكان ، يختصره قصيلٌ بقوله وهويغادر قاعة الإمتحان مهزوماً فاشلاً مرةً أخرى بعد تواصل الخيبات وفقدان الأمل في النجاح في الشهادة الثانوية .. يقول :

(لا مكان لي بين الرفاق الناجحين ، تلفظني مجالسهم التي تغدق بالأحاديث عن مدرجات الجامعة ، وعن الصديقات الجميلات ، فيتفصد العرق من مسامي خجلاً واشتياقاً .. و ينمو سورٌ كبير أمام أحلامي ليس فقط لا يمكنني القفز فوقه ، ولكنني أيضاً لا يمكنني استراق النظر من خلاله ) . انتهى .

هذه المُعاناة تصوّر البعد الإجتماعي للمكان الذي قد يجد الشخص فيه نفسه محاطاً بجملة من القيود التي لا يستطيع التخلص منها إلا بمعجزة .. أو أن يستسلم للموت فيه .

ثالثاً : البُعد السياسيّ للمكان

يستغرق البعد السياسي للمكان معظم فصول الرواية ، لكنه يخفتُ حيناً و يبرز أحياناً ، ففي فصل ” الكساد ” على سبيل المثال يتمنى “قصيل” أن تنقل المجموعة مجلسها الذي كانت تلتئم فيه جلسات الكساد على ناصية الطريق إلى رصافة المريقب ..

حيث أن الرصافة ــ كما تصفها الكاتبة ــ منبسطة كمسرح رومانيّ ، يتجه ركحها نحو الوادي ، وسطحها نظيف ومصقول ، وتنمو في شقوقها نبتات من عشبة الحميض الزاهية و أوراق السعد العاطرة ، والجلوس هناك يمنح إحساساً بالحميمية والإرتباط الصادق بالأرض البكر والخضرة الممتدة ..

بينما كانوا في جلسات ” كسادهم ” يتسابقون لحجز أماكنهم على قطع أحجار البومشي التي خلفتها عمليات البناء المتوقفة ، فيتأبط كلّ شاب منهم الحجر الخاص به مثل زواحف الوزغ .. وكثيراً ما كانوا ينحتون حروف أسمائهم كلّ على الحجر الخاص به ، وهناك من نحت اسم حبيبته .. و هناك من كتب أحلامه وسجّل مطالبه في العمل والسفر والزواج …

تقول الرواية : (وقد أصبح سطح ذلك الحجر هو نفسه سطح آمالنا وطموحاتنا وتفكيرنا .. كان السطح الذي تشكلت منه أفكارنا يعتمد على بُعدٍ واحد ويسير في اتجاه واحد .. فكيف لنا أن نفكر في بُعدٍ ثالث وقد أصبح العمق مفهوماً سفسطائياً يعتنقه الليبراليون وقد تم اجتثاته ومطاردة مريديه بعد إعلان الثورة الثقافية .

في الكساد الليبي العظيم سكنت ” البومشية” نفسها في عقولنا بعد إغلاق كل منافذ الفكر والأدب واللغات ووسائل الإتصال مع العالم . كثيرون لم يعد لديهم تصور دقيق عن حياة مثالية يحلمون بها ، ذلك لأننا لا نعرف على وجه الدقة ما هو مستوى الرفاهية في العالم ، أو ماذا يوجد أساساً في العالم .. ومع الأيام تفشّى اعتقادٌ بأنّنا في جنة الله على الأرض ، وليس علينا أن نفعل أيّ شيءٍ على الإطلاق)

الكساد .. ذلك المصطلح الذي ــ وكما تذكر الكاتبة ــ كان يعني الفراغ و الإفلاس و الفقر و الوقت الضائع دونما عمل أو هدف … وهذه جميعها إشارات إلى ما أنتجه الواقع السياسي في ذلك الوقت .. ولا تخفى هنا الدلالة المعنوية للأمل الذي كان يحذو أؤلئك الشباب في أن يتغير شيئاً من هذا الواقع بتغييرهم للمكان ..

رابعاً : البُعد الإقتصاديّ للمكان

لعلّ أكثر ما يميز البُعد الإقتصادي للمكان الذي عاش فيه بطل الرواية هي فترة الجمود التجاري التي عاشتها البلاد عقب الزحف على أرباب العمل و تبني الأفكار الإشتراكية ، حيث غلب عليها الطابع الفوضوي فكان توفير الحاجيات الضرورية للأفراد تتم من خلال السبيل الوحيد الذي كان متمثلاً في الجمعيات ، والتي كانت في معظمها تتبع نظام القرعة في البيع ، كما أنها تبيع أكياساً مُغلقة تتضمن تمويناً من السكر و الزيت و غيرها من السلع المدعومة ، يضاف إليها ــ وبحسب حظ المُشتري ــ عبوة شامبو أو خفّ نسائي ، أو بدلة عربية رجالية ، وفي أفضل حالات الترف تتضمن القرعة علبتين من السردين أو من الحليب المكثف .

في ظل هذه المعاناة الإقتصادية ، اتجهت شخصيات الرواية إلى استثمار مكانهم الإقتصادي كلّ بحسب ما يملك من بضاعة . فها هي أم السعد تبيع حليب بقرتها طيلة شهر رمضان ، و زينوبة تذبح بعيرها وتقسّمه على أكداس ، وها هو والد قصيل و عمته يبيعون الفحم .. ولا شكّ أن الوادي ــ كمكان ــ له ناتج إقتصادي مهم يتمثل على وجه الخصوص في الزيتون والزيت والقمح و الشعير و التمر .

غير أن أهل بني وليد ” المدينة ” طالهم ما طال باقي المدن نتيجة اختفاء طبقة التجار فجأةً ، بل و وصم التاجر بــالسمسار تحقيراً له ، على الرغم من أن السمسرة في حد ذاتها لا تعتبر عيباً من وجهة النظر الإقتصادية العلمية .. مما جعل السكان يتجهون نحو طرق سرية لبيع منتوجاتهم السابق ذكرها .

 

 

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :