“التطبيل على منصات التواصل: تصفيقٌ يُطفئ الوعي ويُصنّع الأبطال الوهميين”

    “التطبيل على منصات التواصل: تصفيقٌ يُطفئ الوعي ويُصنّع الأبطال الوهميين”

سلمى عداس

لم تعد مواقع التواصل الاجتماعي مجرد منصات للتواصل وتبادل الأفكار، بل تحوّلت إلى منصات لصناعة الوهم وتزييف الواقع، ساحات تُلمَّع فيها الصور وتُختلَق فيها الشخصيات، حتى لو كانت بلا مضمون، أو لها ماضٍ مشبوه وسلوك لا يُحتذى به. لم يعد الأمر يقتصر على التعبير عن الرأي أو طرح الأفكار، بل تطوّر إلى مشهد مسرحي كبير، يُخرج فيه التافهون أبطالاً، ويُجمَّل فيه الباطل على حساب الحق، ويُستبدل النقد البنّاء بتصفيق أجوف لا يُثمر شيئًا.

ظاهرة التطبيل الإلكتروني… صناعة الأوهام الجماعية

لقد أصبحت هذه الظاهرة واحدة من أخطر أمراض العصر الرقمي، إذ تتسلل إلى العقول ببطء، وتغذّي جيلًا بأكمله على ثقافة الواجهة الزائفة، لا الجوهر الحقيقي. رأينا بأعيننا، ولم نعد بحاجة إلى أدلة، كيف غيّر التطبيل مصير أشخاص لم يكن لهم أي حضور يُذكر، فحوّل المجرم إلى “رمز”، والمتسلّق إلى “قائد”، والتافه إلى “قدوة”. كل ذلك ليس بفضل فكرهم أو إخلاصهم أو إنجازهم، بل بفضل آلة دعائية تعمل على مدار الساعة، تروّج لهم في كل منصة، وتدفع بهم نحو الواجهة، ليصبحوا حديث الجمهور.

لا يُطلب من المتلقي أن يفكر، بل أن يُصفق. لا يُترك له مجال لتحليل المحتوى، بل يُطلب منه الانبهار. وهكذا يُصنَع بطل من ورق، يُرفَع على أكتاف التفاعل، ويُسند بماكينة إعلامية زائفة، تكرّر الجمل نفسها وتعيد الصور نفسها حتى يتحوّل الوهم إلى “حقيقة شعبية”، وتُصبح الكذبة المُكررة “رأيًا عامًا”.

جيل يُربَّى على التطبيل… هل نؤتمن به على الأوطان؟

ما يدعو للأسف هو أن هذه الظاهرة لم تعد مقصورة على فئة محدودة من المتابعين، بل أصبح لها تأثير واضح في تشكيل وعي الجيل الصاعد. شباب يقضي ساعات يوميًا في ملاحقة أخبار “المؤثرين”، وحسابات “الشهرة”، ويتفاعل مع مقاطع لا تحمل أي قيمة معرفية أو أخلاقية، في الوقت الذي يهمّش فيه المحتوى الجاد، وتُطرد الأصوات العاقلة إلى زوايا النسيان.

جيل يُربَّى على ثقافة التطبيل والتمجيد لا يُعوّل عليه في بناء الأوطان. لأن بناء الأوطان يحتاج إلى عقول تُفكّر، وأيادٍ تُنتج، وقلوب تُحب بإخلاص، لا إلى أصوات تُصفّق، وعيون تُنبهر، وألسنة تُجامل. كيف ننتظر من جيل لا يعرف معنى المسؤولية، أن يحمل مشروع نهضة؟ كيف نأتمن من لا يفرق بين الحقيقة والصورة، على مؤسسات الدولة والمجتمع؟

نحن بحاجة إلى وقفة صادقة، نعيد فيها ترتيب أولوياتنا. نحتاج إلى تعليم يعيد الاعتبار للبحث والتحليل، وإعلام يُحفّز النقد والتفكير، ومجتمع يُكافئ المبدع لا المتملّق.

التطبيل… خيانة لرسالة الإعلام والمجتمع

لقد أُفرغ الإعلام من محتواه المهني والأخلاقي في كثير من المنصات، وأصبح الترويج الممنهج هو العنوان العريض. تحوّلت بعض القنوات والمنصات إلى أبواق دعائية تمارس التلميع اليومي، على حساب الحقيقة والمساءلة. لم تعد هناك معايير واضحة للتمييز بين من يستحق التقدير، ومن لا يملك سوى الضجيج.

والأسوأ من ذلك، أن “التطبيل” أصبح يُكافأ، بل ويُطلب أحيانًا. فبعض المؤسسات والشخصيات صارت تُغدق المال والترويج على من يمدحها، حتى وإن كان ذلك على حساب المصداقية والمبادئ. وهكذا يُغتال الضمير المهني، وتُقبر الأخلاق الإعلامية، ليحل محلها عصر “المؤثرين المتعاقدين”، الذين يُصفّقون حسب الطلب.

السكوت عن التطبيل… مشاركة في الجريمة

إن التواطؤ مع هذا المشهد لا يتم فقط بالتطبيل المباشر، بل بالصمت أيضًا. حينما نرى الباطل يُروّج له، ونصمت، نكون شركاء في تضليل الناس. حينما نتغافل عن حقيقة المواقف، ونُفضّل السلامة على الصدع بالحق، نكون ساهمنا في تحويل الساحة إلى حفل كبير من التزوير الجماعي للوعي.

فلنتذكّر دومًا أن الشعوب لا تنهض إلا حين تمتلك وعيًا نقديًا، وقدرة على التمييز بين الجوهر والزيف، وبين القائد الحقيقي وصانع الضجيج. كل دقيقة نقضيها في التطبيل لشخص لا يستحق، هي دقيقة نخسر فيها فرصة لبناء مجتمع حقيقي.

الخاتمة: فلنصنع وعيًا لا يُباع… وأبطالًا من فعل لا من صور

ما نحتاجه اليوم ليس المزيد من المتابعين، بل مزيدًا من الوعي. ليس المزيد من الصور، بل من الإنجاز. إن المجتمعات التي تريد أن تنهض لا يمكن أن تبني حاضرها على أوهام مصنوعة، ولا أن تُعوّل على شباب يمتهنون التصفيق. المجتمعات تبنى بالعقول التي تفكر، وبالنفوس التي تخلص، وبالأيادي التي تعمل.

دعونا نوقف هذا الطوفان من التلميع المزيف، ونُعيد الاعتبار للصدق، للعلم، للعمل. فلنكفّ عن تزيين الواجهة بينما الأساسات تتآكل، ولنتذكر أن التصفيق لا يصنع حضارة، وأن من يصنعون الفرق الحقيقي غالبًا لا يصيحون كثيرًا… بل يعملون بصمت.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :