اغلب الناس كانوا غير قادرين على فهم هذا التعدد النوعي، وهذا الأثر الروحي الراقي الذي شكل لافتة ثقافية أمكن نقلها من جيل إلى آخر.
وعلى الرغم من أنه الثقافة كانت من المفاهيم الأساسية في القرن العشرين، فمعيار التناسب بين البلدين ليس مُتكامل على نحو مائة بالمئة، لكل مِنهما اختلافات معاكسة للعادات والتقاليد الخاصة بهم، من حيث الفُنون، والمُوسيقى، والأدب أو رُبما من حيث الحضارة التاريخية، والعلم والمعارف وعلى الصعيد الاجتماعي والاقتصادي ايضاً، وبرغم من هذا الاختلاف لاسيما قد تتشارك الثقافات في بعض الأحيان وتختلف في البعض الاخر.
فقد وجدنا نقاط تفاهم أو ربما تشابه كبير بين الشعبين الشقيقين من خلال فن الطبخ بكافة هواياته ونكهاته واطعمته.
حيث يعتمد المطبخ التونسي على أساسيات مثل : زيت الزيتون، والفلفل الأحمر الحار، والبهارات الفواحة والطماطم والخضراوات بينما يتميز المطبخ الليبي بنكهاته التي تجمع مجموعة كبيرة من الأطباق الشعبية اللذيذة .
ولعلى من بين الأكلات التراثية القديمة المعروفة بليبيا” العصيدة ” والتي عُرفت ” بالفَرينة ” لدى التونسيين الأكلة الشعبية الأكثر ترويجاً تختلف مذاقات ونكهات هذه الاكلة، التي يتم تحضيرها عقب الاحتفالات بالمولد النبوي الشريف .
كما عُرف الكُسكِسي بأنه الطبق الشعبي الرئيسي المفضل لدى البلدين فضلاً عن تنوعه،
يتم تقديمه في المناسبات الاجتماعية وحفلات الزفاف، أو في يوم الجمعة عيد المسلمين الذي تجتمع فيه الأسرة، إلى جانب أشهر وجبة تونسية وهي ” الرشتة” والمعروفة” بالمكرونة المبكبكة ” في ليبيا، فهم من أفضل الوجبات المشتركة التي تجمع أفراد العائلة الليبية والتونسية معاً ..
حيثُ تَستمد ثقافة هؤلاء البلدين الجارين بمفاهيم شاملة ومختلفة شملت كل ظواهر الحياة الإنسانية.
والكثير ما يقال بإن اللهجة التونسية قريبة جداً ومطابقة إلى لهجة سُكان مدينة طرابلس الغرب، كما تُوجد صلة مادية ومعنوية وروحية تربط هؤلاء الشعبين من حيث النسب والمصاهرة، وهُناك الكثير من القبائل التي تنتمي إلى أصول تونسية ويعيشون بليبيا منذ سنين عديدة وعلى العكس ذلك .
كما وهُناك مناطق بالمدن التونسية ترجع جُذورها إلى قبائل ليبية منها قبيلة ترهونة التي تقع بولاية زغوان، ومنطقة ورفلة الواقعة غرب ليبيا يرجع نسبها إلى قبيلة الورفلة بولاية باجة التونسية.
كما وللزعيم التونسي الرئيس السابق، “الحبيب بن علي بورقيبة” احد زعماء تونس الكبار، الذي لعب دوراً فعالاً في الزعامة لتحقيق أهداف بلاده نحو الاستقلال، تعود أصول عائلته واجداده في الواقع إلى أصول ليبية، من قبيلة الكراغلة بمدينة مصراته الليبية، منذ قرنين من الزمن وتحديداً بعام 1795 هاجر جده عبر البحار متمحور إلى تونس حيث ترعرع وعاش هُناك .
يمكننا القول بإن المزيج الثقافي بين تونس وليبيا عِبارة عن كُتلة منعقدة يشتركون حتى في تسمية الألقاب الأسرية، مثل عائلة الجواني بسرت، والكرغلي والخرازي بمصراته، والقماطي بزليتن وكل من
الغرياني ، والفرجاني ، والرياني، بجبل الغربي والمهدوي، بترهونة، وعائلة بن هدية، وبن فايد، وغيرهم الكثير لا يسع ذكرهم .
مرت عقود طويلة حافلة بنقل حضاري على أكثر من صعيد، وفي القرن التاسع عشر دخلت وثيقة تاريخية جديدة، عُرفت بالشنة او بمعنى اخر الشاشية، وهي قبعة أو الطربوش الرجالي دخلت ضمن اللباس التقليدي الليبي والتونسي، فهي تعد جزء لا يتجزأ من الإرث الأندلسي.
تختلف وتتنوع أو ربما تتشابه الازياء التقليدية بين دولة وأخرى، امتدت جُذورها عبر السنين لِتصل إلى الأجيال، ليتعرفوا على أصول حضارتهم ورموزهم العريقة.
فالجرد هو الرمز التقليدي لدى الليبيين، والبصمة الحضارية التي عرفوا بها منذ أقدم الأزمنة والعصور، بينما تأتي الجبة التونسية في الصدارة، اللباس الذي يرتديه التونسيون في المناسبات والأعياد، والتي تعد الرمز الذي يعبر عن شخصياتهم، على رغم من وجود اللباس العصري الحديث، لاتزال الجبة تُحافظ على مكانتها، فهي الرونق المعتاد الخاص بهم..
كل منهما عُرفوا بثقافة فنية منفردة تم تحديدها بوضوح ودقة، تشكلت في انتمائهم وأيديولوجيا شخصياتهم وسلوكهم ومواقفهم وآرائهم.
وبعودة سريعة للفن تمكن مبدعين وفنانين تونسيون، بالتعامل مع أسماء عملاقة بالفن الليبي لازالت أصوات الحانهم محفورة في ذاكرتنا إلى يومنا هذا، جعلوا الفن مليئا بالإبداع، ومن بينهم أبرز نجوم الأغنية الليبية الشعبية، ” محمد حسن ” الذي ولد عام 1946 بمدينة الخمس الليبية، سادت تعاملاته مع الفنانة التونسية الراحلة “ذكرى محمد ” التي انتقلت إلى ليبيا في بداية مشوارها الفني، حيث عُرفت بحبها الشديد لتراث الليبي وصدرت عدداً هائلة من الألبومات الليبية.
بالنظر إلى ما ساد من تعاملات، هذه التحولات كانت مماثلة جداً جمعت معارف وفنون مشابهة، وصنعت قوة حديدية صلبة بينهما.
ليبيا الدولة الرابعة الأكبر مساحة في دول أفريقيا من حيث رقعتها الجغرافية وحجمها وموقعها، على الرغم من تعرضها إلى العديد من الحروب والصراعات السياسية في سنوات الأخيرة، الا أنها تعد الأخت الشقيقة لتونس عند الصعاب، فهم من أكثر الشعوب رسوخاً وثباتاً، هُناك حنان وعطف حولهم لا متناهي، وقوة التماس قريبة جداً إلى حد الالتصاق، يتعاملون بطيبة وحسن نية، يقفون صامدون في مواجهة أي اضطهاد يهدد مصالحهم الأمنية، وعلى الرغم من الفتن التي تعرضوا لها على نحو أسبق، قادرين على التسامح لأبعد حد،
تجمعهم علاقات دولية واجتماعية وسياسية جذرية هؤلاء البلدين تاريخهم وحبهم عميق لا يتلوَّث أبداً..