بقلم :: د :: نور الدين سعد الورفلي
كثر من كتبوا القصة، وابتعدوا عن السفاسف، رضوان أبوشويشة أكبرهم. وأروعهم.
أتذكر أنني وفي إحدى المرات حين سألت ببراءة، أستاذي في مادة ستراتيجيا الإتصال، وكان من عادة معلمينا، ولن أشير لا إلى المكان، ولا إلى المحاضرة أو لأي مستوى علمي كانت، كان من عادة الأساتذة أن يتناصوا مع الحكايات والأدب والفن، مهما كان نوع المحاضرة ومادتها العلمية يفعلون ذلك.
قال البروفيسور: في عصر النهضة، كان سافونا رولا ممتعضاً جداً، وكان يتوعد بقدوم طوفان، عصر النهضة كان عصراً للنهضة فعلاً، قال البروفيسور، لكنه امتلأ بالسفسفة كحال أي نوع من الثورات، وتديث بعض الرجال، وخرجت بعض النساء تتسكعن، شبه عاريات لأول مرة في الشوارع، وكثر الفساد، بين الجنسين كليهما، وكأن الثورة أن تخرج عارياً وتتحرحر، في كل شيء، وتعمل ماستيكاري، من “يتمستك”، أي يمضغ العلكة برِكَّة وصفاقة ويتبع ذلك، أن يتجشأ علناً، وتطلق أيضاً على الشخص النيئ، اللي يتمستك، حتى عندنا في لهجتنا المحورة بعد الإحتلال بالضرورة Masticare، قال البروف، كان سافونا رولا، وحتى دانتي، وربما لهكذا أسباب كتبوا أعمالهم، يرون كل هذا الإنسلاخ في القيم، فضاقت أخلاقهم، وفاضت عقولهم بالسأم من كل ما يجري، فكتبوا. وفي النهاية تم حرق سافونا رولا ونفي دانتي وتشرد… عندها تدخلت، مبيناً مدى حرصي وذكائي، بأنني أفهم وأنني قارئ جيد، قلت: يا بروف، سافونا رولا مصلح ديني صحيح، لكنه قام بحرق أعمال فنية عظيمة، وكان يهذي.. دانتي كتب أيضاً لكنه أكثر صدقاً وجدية.
لأول مرة أرى البروف يثور في وجهي هكذا، في تقليد الجامعة لا فرق بين مواطن ومغترب، الكل طلبة بنفس المستوى، يمتحنون بنفس المستوى، ويقيمون بنفس الدرجة، وكذلك هم مسؤولون على كلامهم، واجتهادهم وأخطائهم، لا فرق بينهم ولا تمييز، عدا في التمكن السليم من البرونونشا، النطق السليم للمفردات … لأول مرة يخاطبني البروف بكل هذه الحدة، قال لا يستوي الخبيث بالطيب أبداً، ما تقوله صحيحاً، ولكن رغم ذلك دعني أصحح لك، وهو يقصد دعني أعلمك، وأضاف، أنت جئت من بلد آخر، ومهما كنت عبقرياً لن تكون مثلنا أبداً، لن تكون من بيئتنا، نحن نعرف بلادنا ونعرف عللنا، وندرك مصائبنا، ثم أضاف:
أنا رجل علماني، لكن حين تمس القيم، أجن، قد أكون قديماً نوعاً ما وكلاسيكياً، لكن لنا تاريخ وحضارة، ولنا دين، كل هذه الأشياء يجب أن نحترمها طوعاً أو كرهاً، نحن في بلد ديمقراطي صحيح، لكن حين تمس القيم علينا العودة إلى الوراء، القيم هي القيم، قبل الدين وبعده ثمة قيم، والدين هو الدين أيضاً ومن واجبنا احترامه، القيم هي المحرك الرئيس لمشاعرنا مهما تطورنا، سافونا رولا معه الحق، ودانتي معه الحق يا إبني، قالها بصدق كلمة “يا إبني”، قال، ما حاجتنا إلى الجمال إذا لم يكن جمالاً، ما حاجتنا إلى القيم إذا لم تكن سلوكاً، ما حاجتنا إلى الحضارة إذا لم تكن إنساناً يمتلك كل هذا بأصالة ومعاصرة أيضاً، هل يجب أن نصفق لمجرد أننا خالفنا وجئنا بجديد، قد يرى البعض أن في المثلية مثلاً ثقافة، وفي الإباحية ثقافة، لكنها عار ماحق، وكثرت في عصر النهضة وتنامت إلى اليوم، ووجدت أنصارها، من جهة أخرى، كانت المرأة محتشمة، الإحتشام لا يعني التخلف، بل يعني رقي في الجوانب المدرسية للمرأة كأم كمدرسة، التحضر لا يعني السوقية، والإحتشام أيضاً لا يعني الإحتشام، لكنه ظاهرياً يرنا ذلك، مهما كان ما تحته، كل شيء يجب أن يوضع في محله، حتى الكلام السوقي، إذا وجد له معنى، لكن أن نتحدث كلام سوقي، من أجل أن نتحدث فقط ونخالف، فهذا يعني أننا نحرث في مياه آسنة، كل ما غرسنا محاريثنا اشتدت رائحة المياه وازدادت عفناً، العري مهما تفنن الرسام فيه فهو عري، غير أن المونا ليزا لم تكن عارية، هذا المحق في الخلقة هو الذي سبب في انهيار القيم، كل هذه الإباحية التي لا معنى لها هي المسبب الرئيس للكارثة قبل وقوعها، قد يكون سافونا رولا يهذي حين أشار للطوفان، لكنه كان ملتزماً على صعيد رصيده الأخلاقي، وكان دانتي خلوقاً جداً، وكان ثمة خلوقين كثر من الفنانين، أغنت أعمالهم تاريخنا العظيم، وكانوا عظماء دون أي حاجة لأن يتعروا، أو يبتذلوا، هل يجب أن نتحدث بتلويك الإصطلاحات والإكثار منها من أجل أن يقال أننا مثقفين، عارفين؟؟ بعث روح الديمقراطية لا يعني التحدث مع الفراغ، وملئ الدنيا بالضراط، أقول هذا الكلام لمثقفينا، وأنت مشكور، أثرت موضوعاً مهماً، ولكن حفزتني يا ابني على الحديث للتصحيح للكل، موروثنا محفوظ مهما كنا علمانيين، ومهما تطورت أزماننا، ليس الأمر في العلاقة بين الإلزام والإلتزام، أو أن نكون ملتزمين، لكن أن نكون حضاريين بموروث، لا بعبث، ومخالفة من أجل المخالفة، ونأتي بأناس نطلق عليهم نقاداً، يقيمون، أو لنقل، يبيحون ويمنعون.
الموروث أمر حساس جداً، لعلك لاحظت في مركز المدينة ماحصل، أنهم جاؤا يريدون فتح نفق تحت مدينتنا القروسطية من أجل الترام، خرج الكل فعلًا وقالوا طز في الترام وتحيا الآثار، في الأخير لم يمس مركز المدينة وعملوا السكة بشرط أن يتوقف الترام في محطته الأخيرة في السانتا ماريا نوفيلاّ ويستقل آوتوبوس، لن يحصل شيء سيصل المواطن إلى مركز المدينة، وستتعافى وتبقى على حالتها الأولى دون حفر كما تركها الأجداد، وهذا ما حصل، أنا أحمد الله أنه برغم كل هذه الحداثة التي أنا من أنصارها، بأنه ثمة ضمير أيضاً.
الخلاصة حين نكتب، علينا التمكن من أدواتنا، مهما كنا أنصاراً للتحديث، أما أن نفترض أننا نكتب حداثة دون الرجوع إلى السطرين اللتين قرأناهما عنها دون تأمل، فهنا مكمن الداء، وهنا بقاءنا نائمين داخل مصباح علاء الدين، ننتظر حظاً يجيئ صدفة، من أصابع رجل مبارك، نقوم بمسحه كما علمنا السندباد، فنخرج بين غمضة عين وفتحها (عمالقة).
ريحونا الله يريحكم، تعبنا والله تعبنا….
ن.م.س