أجرت الحوار: سلمى مسعود.
عثمان محمد عثمان ضو الحطماني، أحد أبرز الأصوات المدافعة عن الجنوب الليبي، يجمع بين الخبرة العسكرية والسياسية والاجتماعية. خريج الكلية العسكرية في طرابلس عام 1996، ومتحصل على بكالوريوس في العلوم العسكرية وماجستير في العلاقات الدبلوماسية والدولية، يمتلك أكثر من 30 عامًا من الخبرة المتراكمة في خدمة الوطن، سواء في الميدان أو في ساحات النقاش السياسي. في هذا الحوار المطوّل، نتعرّف على رؤيته حول قضايا الجنوب، واستشرافه لمستقبل ليبيا.

“أنا ابن الجنوب، وجراحه تسكنني“.
بدايةً، نود أن نتعرف عليكم أكثر، ومن أين انطلق اهتمامكم بالشأن السياسي في الجنوب؟
أنا عثمان محمد عثمان ضو الحطماني، من مواليد 1976، من مدينة برقن في منطقة الشاطئ جنوب ليبيا. نشأت في بيئة تعرف معنى الالتزام والانتماء، وتشرّبت منذ طفولتي شعورًا دائمًا بالمسؤولية تجاه منطقتي وأهلي. تخرجت من الكلية العسكرية بطرابلس عام 1996، والتحقت بسلك القوات المسلحة الليبية، حيث عملت في مواقع متعددة لخدمة الوطن، قبل أن أتوجّه لاحقًا للعمل السياسي والمجتمعي.
اهتمامي بالشأن العام لم يكن وليد لحظة، بل هو امتداد لوعي تراكم مع السنوات. ولكن، بعد 2011، ومع الانهيار المؤسسي والأمني، شعرت بأن الجنوب يمر بمرحلة خطيرة من التهميش والتجاهل، وأن الصمت لم يعد خيارًا. بدأت رحلتي في الدفاع عن قضايا الجنوب من موقع المسؤولية، لا من باب الترف أو البحث عن الأضواء. اخترت أن أكون صوتًا للمواطن البسيط، ولسكان مناطق حرمت من التنمية والفرص، رغم ما تقدمه للوطن.
“الجنوب ليس رقعة جغرافية… إنه ميزان استقرار ليبيا“.
كيف تنظرون إلى موقع الجنوب في المعادلة الليبية والإقليمية والدولية؟
الجنوب لا يمكن التعامل معه كإقليم طرفي، بل هو مركز الثقل الجغرافي والاستراتيجي لليبيا. حدوده الممتدة مع دول الساحل الأفريقي – مثل النيجر وتشاد ومالي – تجعله بوابة ليبيا إلى أفريقيا، ومركزًا للتواصل التجاري والثقافي والتاريخي. لكن في ذات الوقت، هذه الحدود المفتوحة جعلت منه ساحة مفتوحة بعد غياب الدولة، يتم استغلالها من قبل شبكات التهريب، والجماعات المسلحة، والحركات المتطرفة.
إن من يراقب ما يحدث في الجنوب منذ 2011 سيدرك أن الصراع لم يكن محليًا فقط، بل إقليميًا ودوليًا. الجنوب تحوّل إلى ممر للإرهاب وتهريب البشر والسلاح، لأنه ببساطة تُرك دون إدارة حقيقية. ومن هنا أقول: لا يمكن الحديث عن أمن ليبيا ولا استقرارها دون تأمين الجنوب، لا بالشعارات بل بالفعل.
“حين يغيب الأمن..تتعثر التنمية“.
لماذا لم تتحقق التنمية في الجنوب رغم تعدد الخطط والبرامج؟
جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد قدمت وعودًا بتنمية الجنوب، وبعضها حاول تنفيذ تلك الوعود، لكن دون جدوى، نتيجة غياب الإرادة الصادقة لتحقيق تنمية حقيقية في هذا الإقليم.
ومع ذلك، يظل السبب الرئيسي وراء عرقلة التنمية في الجنوب هو غياب الأمن، وانتشار الفوضى، وانعدام القيادات السياسية القوية التي تمثل الإقليم وتستطيع الدفاع عنه وانتزاع حقوقه.
ومن الجدير بالذكر، وهي نقطة في غاية الأهمية، أن الجنوب الليبي، بعد عام 2011، لم يتمكن من بناء قوة عسكرية تحميه وتدافع عن مصالحه، كما فعلت بعض الأقاليم الأخرى. ويعود ذلك إلى ما شهده من حروب أهلية، وتشرذم، وانقسامات داخلية، أضعفته وأفقدته القدرة على فرض وجوده في المعادلة الوطنية.
“الجنوب يستطيع أن يطعم ليبيا… ويربطها بأفريقيا“.
ما هي المكاسب الممكنة من تنمية الجنوب؟
لو تم استثمار الجنوب بطريقة استراتيجية، لتحولت ليبيا إلى دولة زراعية واعدة، وممر تجاري دولي. الجنوب يملك أكثر من 40% من الأراضي الزراعية الخصبة في ليبيا، بالإضافة إلى مخزون مائي ضخم. لدينا الشمس الدائمة التي تؤهلنا لتكون ليبيا رائدة في مجال الطاقة الشمسية.
كذلك يمكن أن يتحوّل الجنوب إلى مركز لوجستي يربط أوروبا بأفريقيا. كثير من الدراسات الاستراتيجية، خاصة في عهد النظام السابق، كانت تُركّز على أهمية فزان كممر دولي للطيران والشحن والتجارة. التنمية في الجنوب ليست فقط استثمارًا اقتصاديًا، بل مشروع استقرار إقليمي شامل.
“محاصصة بلا عدالة: حين يُستبعد الجنوب من هندسة السلطة“.
كيف تقيّمون التمثيل السياسي للجنوب في المراحل السياسية المتعاقبة؟
رغم أن الاتفاقات السياسية الليبية التي أُبرمت خلال السنوات الأخيرة، مثل اتفاق الصخيرات ومخرجات الحوار السياسي، أشارت بشكل غير مباشر إلى أهمية التوازن الجغرافي في توزيع المناصب السيادية، إلا أن الجنوب لا يزال يعاني من تهميش واضح في التمثيل داخل مؤسسات الدولة. ففي الوقت الذي أُسندت فيه رئاسة الدولة إلى جهة الشرق، ورئاسة الحكومة والنائب العام إلى جهة الغرب، غاب الجنوب تمامًا عن تولي المناصب السيادية الرئيسية، وهو ما يُعد خرقًا ضمنيًا لمبدأ العدالة بين الأقاليم الثلاثة.
كان من المتوقع أن يُمنح الجنوب مناصب عليا مثل رئاسة البرلمان أو رئاسة المحكمة العليا، كمؤشر على وجود توازن حقيقي، غير أن ذلك لم يحدث. ما حدث فعليًا هو فرض أسماء من خارج الجنوب لتولي هذه المناصب، دون مراعاة للمشاركة العادلة، ودون أي تمثيل فعلي للإقليم في مواقع القرار. هذا الوضع يعكس استمرار نمط الإقصاء، ويؤكد أن الاتفاقات لم تُترجم إلى واقع ملموس بالنسبة للجنوب.
يعود هذا التهميش إلى عدة عوامل، في مقدمتها ضعف التنسيق السياسي بين ممثلي الإقليم، وغياب رؤية موحدة تدافع عن مصالحه في المحافل الوطنية والدولية. كما ساهم الفراغ المؤسسي، وضعف البنية الإدارية والتنموية، في إضعاف موقع الجنوب ضمن التوازنات الوطنية. أضف إلى ذلك غياب التأثير الإعلامي، وافتقار الإقليم إلى أدوات الضغط التي تُمكنه من انتزاع حقوقه.
إن الواقع الحالي يُظهر أن الجنوب لم يُعامل كشريك في بناء الدولة، بل كطرف يُستدعى عند الحاجة لتكريس مظهر من مظاهر الشمول، دون أن يُمنح حق المشاركة الفعلية في إدارة الشأن العام. ويجب أن يدرك القارئ أن ما يحدث ليس مجرد نتيجة خلل سياسي عابر، بل هو انعكاس لبنية عميقة من التهميش، تُعيد إنتاج نفسها في كل مرحلة من مراحل التحول السياسي في ليبيا.
“نريد ممثلين لمشروع وطني… لا لحسابات قبلية“.
ما هي المعايير التي يجب اعتمادها لاختيار ممثلي الجنوب مستقبلاً؟
نحن اليوم أمام مرحلة مفصلية في تاريخ الجنوب الليبي؛ فإما أن يكون شريكًا حقيقيًا في صياغة مستقبل الوطن، أو يستمر رهينًا لدوائر التهميش والإقصاء. ولذا، فإن اختيار ممثليه لا بد أن يخضع لمعايير دقيقة وواضحة: الكفاءة، النزاهة، الحضور المجتمعي، الخبرة السياسية، والقدرة على بناء التحالفات الوطنية. لم يعد مقبولًا أن تُفرض أسماء لاعتبارات قبلية أو شخصية، بل يجب أن يُنتخب من يحمل مشروعًا وطنيًا منبثقًا عن هموم الإقليم وطموحات أبنائه.
ورغم هذا المشهد المعقد، لا بد أن نعترف بوجود نماذج وطنية مشرفة أثبتت حضورها وأدّت دورها بإخلاص، ومن بينها الأستاذ صالح همة بكدة، عضو مجلس النواب وسفير ليبيا لدى الجزائر، الذي نُكنّ له كل التقدير على مواقفه الداعمة لقضايا الجنوب، وسعيه الدؤوب في تمثيله بمسؤولية وكفاءة، سواء في الداخل أو في المحافل الدولية.
“المجلس السياسي الجنوبي… ضرورة وطنية“.
هل تؤيدون إنشاء مجلس موحد لقيادات الجنوب؟
نعم، وبكل قوة. نحن بحاجة إلى جسم سياسي جامع يُنهي حالة التبعثر، ويكون منصة لطرح مطالب الإقليم. هذا المجلس لا بد أن يضم ممثلين عن كافة مكونات الجنوب: القبائل، الشباب، الأكاديميين، النساء، المجتمع المدني. نحتاج إلى صوت واحد، وموقف واحد، ومشروع واحد.
“رسالتي لأبناء الجنوب: لا تنتظروا أحدًا… كونوا أنتم التغيير“.
ما هي رسالتكم لأهالي الجنوب في هذه المرحلة؟
رسالتي أن نكف عن الانتظار. لا أحد سيأتي ليمنحنا حقوقنا، إن لم نأخذها بأنفسنا. علينا أن نتعلم من الماضي، وأن نغلق أبواب الفرقة، ونفتح أبواب العمل الجماعي. الجنوب مليء بالكفاءات، لكنه بحاجة إلى إرادة جماعية. لا بد أن نتحرّك، وأن نؤمن بقدرتنا على التغيير.
“الشراكة مع المجتمع الدولي ممكنة… بشرط أن يحترمنا“.
وأخيرًا، ما دور المجتمع الدولي في دعم الجنوب دون فرض وصاية؟
نرحّب بأي دعم دولي حقيقي، شريطة أن يكون عبر المؤسسات المحلية، وبالتنسيق مع المجتمعات الجنوبية. ما نرفضه هو التدخل الفوقي أو المشروط. نحتاج إلى شراكة تقوم على الاحترام، لا على التوجيه. الجنوب لا يطلب صدقة، بل يطلب تمكينًا حقيقيًا، يبدأ من دعم البلديات، إلى التدريب، إلى مشاريع التنمية المستدامة.
رسالة إلى الشعب الليبي.
إلى كل الليبيين، من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب،
رسالتي إليكم أن ليبيا لن تنهض إلا بوحدة صفها، وعدالة توزيع فرصها، وإنصاف كل شبر من أرضها، وفي القلب من ذلك الجنوب الليبي، الذي لطالما أعطى ولم يأخذ ما يستحق.
الجنوب ليس طرفًا معزولًا، بل هو العمق الاستراتيجي، والخزان البشري، والثروة الصامتة التي إن تم تمكينها، نَهض الوطن كله. وما لم نؤمن جميعًا بأن الأمن لا يتجزأ، والتنمية لا تُقصي أحدًا، فإننا سنبقى ندور في حلقة مفرغة من الانقسام والصراعات.
لقد آن الأوان أن نستبدل سياسة التهميش بثقافة الشراكة، وأن نكفّ عن تصدير الأزمات للجنوب ونبدأ من هناك مشروع الإنقاذ الوطني. ليبيا لكل أبنائها، والجنوب ركيزة لا هامش، صوت لا صدى.
فلنعمل معًا على بناء دولة العدالة والمواطنة، دولة تُنصف الجنوب كما تنصف سائر الأقاليم، وتعيد للوطن هيبته ووحدته.
السيرة الذاتية














