قراءة :: أسامة حبشي
قصائد ديوان لعلها شجرة بعيدة باكورة الشاعر الليبي محمود البوسيفي – الصادر عن دار الرواد بليبيا أواخر عام 2016- تمتلئ بالحزن والألم والغربة، وكأنها وطن على حافة التشكل بعيدا كشجرته أو كوطن فقد أرضه وأناسه وصار مرتعا للحرب والاغتراب، إنه حالة الإنسان المعاصر المشتت الباحث عن ذاته الضائعة وسط احباطات يومية معاشة ووسط كم هائل من الصعوبات والموات على كل مستوى ، إنها قصائد كالطلقات المحذرة أحيانا وأحايين أخري طلقات من أجل الرحمة كرغبة في تعجيل الموت، وهى أيضا قصائد الحب الهارب من الأزقة والصدور
لعلها شجرة بعيدة يمثل حالة شعرية مكتملة، حالة تبحث عن المغترب والغربة وعذاباتها المستمرة ، إنه حالة تذكرنا بشعر فروغ فرخزاد وبشعر رِامبو المتوحش فى لغته وحالته، ولكن هنا الغة ليست متوحشة بقدر ماهى لغة ناعمة تنسال من الجرح ببطء وكأنها نزيف داخلى لايتوقف، لغة تختلط بالسهولة والصعوبة وكأننا أمام رباعيات صلاح جاهين .
قصائد البوسيفي التى فى أغلبها تميل للقصر تعيد صياغة حالة الضعف والحزن لدى الإنسان وكأنها تسطرها فيما يشبه السرد أو التأريخ ، إنها قصائد الحزن لدى الإنسان المعاصر، قصائد الألم والوجع والحب المطارد الذى لايجد له مكانا جليا فى هذه الحياة العدمية الكابوسية اليومية، إنه ديوان العذابات لدى الفرد فى مواجهة محيط مجتمعى متردى وعنيف فى كل ممارسته ولا يعرف الرحمة لقلب أو لفرد أو حتى لرغبة ما تجيش بداخل كل منا.
وإذا كانت تلك القصائد هكذا إلا أنها بداخلها تحمل حالة من الرفض والتمرد فى آن، وهى قصائد التساؤل والإجهاش والدهشة معا، وهى سيرة شاعر يهرم وسط عواصم تطارده وتطارد غربته باستمرار، إنها قصائد شاعر ليس بحوزته إلا قصيدته وبعض من البحر وقليل من السماء والطين الذى يتشكل ما بين الحين والآخر كائنات مرحة صدفوية ليس إلا.
ديوان لعلها شجرة بعيدة والذى صدره البوسيفي بمقولة ابن عربي” وما عليّ إذا ما قلت معتقدى..دع الجهول يظن الحق عدوانا” لهو صوت شعري خاص وينبأ عن ميلاد شاعر كبير، شاعر يتحسس جملته كخياط بارع ، شاعر يميل للتكثيف والبعد عن الاسترسال وظهر ذلك جليا فى قصائد مثل “برتقال” فنجده يقول ” فى سماء قديمة/ حقل من حناء/ لا طير فى الأفق/ لا رائحة للبرتقال” وقصيدة عاصمة ” يهرم الشاعر تحت سترته/ لكنه حين يقف شاهرا قلبه/ يسترد العواصم / والهواجس/ ولا يعود يفكر إلا بالنساء”، حتى فى قصيدته المطولة كتاب الغربة نجد الجمل بها كصرخات والطلقات فجاءت القصيدة فى صفحات بكل صفحة سطر شعرى مكثقف أشبح بنواح أو بصرخة ألم قوية ومنها ” الغربة /أن يعتقد أحد / أنه أنت” ..” الغربة/ ألا تسمع وألا تري / وأنت/ وسط الضجيج”.
وفى النهاية فإن ديوان لعلها شجرة بعيدة لهو السير فى صحراء الكلمة بحثا عن ماء المحياة وبحثا عن ذات أكلتها المدن وألقت بعظامها وسط خرائب الاغتراب، وهو ديوان الوقوف على حقيقة الكذب اليومى وحقيقة فقدان الحب ” النهار ليس صديقا كما يعتقد الفلاح/ الليل لم يعد آمنا كما يرغب اللصوص/ عيناك- أيتها الضحوك- وحدها/ من يؤمن بجدوى الاحتمالات”.