أحمد حمدوني
كانت طوال الوقت أمام ناظري وكنت غير آبه لها ولأسرارها، كبرت وترعرعت حتي مسها من إهمالي تعب ومن صنعي ضر وشقاء، ها أنا أسير نحوها محاولا اللحاق بها وقد شارفت على الرحيل امشي دبيبا بجسد متثاقل صفر اليدين لا أحمل في جرابي إليها هدية أو وصية أو رسالة اعتذار وإن كانت مشافهة عبثية، لم يكن لي متسع من الوقت لفعل شيء من هذا القبيل فقد نُقِل لي نبأ رحيلها منذ وقت قصير، دخلت القاعة فهرعت النسوة إلى إخراج أطفالهن خشية أن يعلق في عقول الأطفال شىء مما يحدث، كان حلولي بالحفل حدثه القادح وعقدة القصة فيه وكنت برزخا بين بحرين، جلست بهدوء كي لا أزيد الضيق ضيقا ولا أسقي الحاضرين من كأس العلقم أكثر، جلست وعيناي لا تفارقانها ولا تبصران غيرها وأعين الحاضرين لا تفارقني وربما لا ترى غيري إطلاقا، تأملتها مليا وأمعنت في تفاصيلها فازداد صدري ضيقا وتدحرج على لساني اعتذار مضطرب، رأيتها وقد تزينت بفستانها ترقص رقصة الوداع على شدو النحيب وكنت متزينا بشحوب الوجه أتحسس دفئا يلثم صقيع يدي وصوتا ينبعث من الجب يناديني، يسألني الجواب وما من مجيب
تأملتها وكانت في زي الدراويش ترقص السماع وتسمو من حضيضي إلى كمالها وعليائها، رسمت بنزيف جراحها طيرا واقتبست من أنين الوجع لحنا ورقصت على إيقاع ألمي في حضن شديد غليظ، سعيت إلى النهوض سعيا وحاولت الصراخ مرارا لعلي أخلص نفسي من شراك كابوس تجسد في زي الحقيقة، رأيت في تفاصيلها خلاصة الوجع وثمرة الضياع وأحصيت الندوب المنتشرة على جسدها فغرقت في عباب الحرقة أكثر، بحثت لعل القدر يرشدني إلى حدث جميل جمعنا فعدت أدراجي خائبا لا أحمل معي من التيه في ثنايا قوامها غير الذنب وتأنيب الضمير، أرى نفسي في كل ندبة متجسدا بشكل من الأشكال، ندبة أكون فيها موصوما بالقبح وأخرى أتحول فيها إلى مجرم فأدركت أنني الجاني وأنها ضحيتي وأن جسدي نذير شؤم منذ التقينا فانتهيت إلى قناعة أن لا فائدة من الاعتذار بعد فوات الأوان، قلت هذا وزدت عليه أملي أن تكون في صباح الغد أفضل حين تتجاوز كل شيء وتعود إلى دارها وأهلها، في لحظة أدركتها تنهي رقصتها وتغادر حضن القبيح ثم ترجلت نحوي على مهل تمشي بخيلاء مبتسمة فدبت في صدري أمنية واحتشدت على شفتيّ أدعية مبعثرة وتسربت من مقلتي دمعة أججت في قلبي آهات وآهات، اقتربت أكثر فارتفعت الأصوات المنادية من الجب أكثر فأكثر، جالستني وتحسست بيدها شعري ومسحت عني صبابة عرقي فبات الأمر أكثر جلاء والوجوه أكثر وضوحا، رفعت بصري فرأيت ملامح النائحات الباكيات فتذكرت من بينهنّ وجه أمي، مازالت عروس المحفل بجانبي تحرك أصابعها على صدري وتضحك لمظهر عباءتي كأنها تود استبدال رداء الكدر برداء الفرج و وشاح الدنف بوشاح الراحة، همست في أذني تذكرني كم سعيت في الحياة وكم ملكت من متاعها حتى رأيت الشديد الغليظ يقترب ويأمر خليلتي بالخروج فتحركت من كل أوصال جسدي مغادرة.أغمضت عينيّ وعانق الموت روحي محلقا بلا عودة .