وهل الدراسات العليا يجب أن تتاح لكل الطلبة وجميع المستويات؟
- يونس الفنادي
مقدمة:
من أبرز مؤشرات تقدم المجتمع هو ما تكون عليه مستويات الدراسات والبحوث العلمية التي ترتكز غالباً على أربعة عناصر أساسية هي: الطالب، وموضوع البحث، والأستاذ، والمؤسسة الجامعية، مع إيمان الجميع بأن الدراسات العليا هي عملٌ ذو أهدافٍ وطنيةٍ تطال جميع قطاعات المجتمع، ويضيف الكثير من التطورات الفكرية والمادية العملية بمستوى يستجيب للاشتراطات والخبرات العلمية لأوجه الحياة المجتمعية كافةً.
أولاً: الطالب
تتأسس عملية الانخراط في الدراسة العليا بالدرجة الأولى بالنسبة للطالب على عاملين رئيسيين هما:
1 – الرغبة في التعلم.
2 – الإمكانيات والقدرات.
فلابد أن تتوفر الرغبة الشخصية لدى الطالب وحرصه على الاستزادة من العلوم المتخصصة في مجاله المحدد بشكل أوسع ومتقدم، وعشقه للنهل من المعارف والدراسة والبحث والتنقيب، واستعداده للتضحية من أجل ذلك بوقته وصحته وظروفه الاجتماعية والمالية، يتعزز ذلك كله بالفطنة الفكرية والذكاء المسكون بالسؤال النقدي والسعي لتتبعه في محاولة لإمكانية الوصول إلى بعض إجابات له، وكذلك بإمكانياته المهارية اللغوية التي أولها بلا نقاش هو إتقان اللغة صرفاً ورسماً، مع ثراء وزجالة قاموسه اللغوي لكي يخلو عمله البحثي من التكرار والتدوير لمجموعة من الكلمات أو العبارات ذاتها في كتابته، وكذلك امتلالكه الأسلوب اللغوي التعبيري الرشيق الواضح في كتابة العرض والتحليل المعمق الخالي من الرتابة والغموض والتفكك. وهذه كلها في تصوري الشخصي تمثل الأرضية والأساس الذي يجعل الطالب جديراً بقبوله في الدراسة العليا مع تيقنه بمعاناتها ورغبته وقدرته على تحديها لها بكل ثقة وإرادة.
والسؤال المهم الذي يطرح في هذا الجانب هو: هل الدراسات العليا يجب أن تتاح لكل الطلبة وجميع المستويات أم لصفوة محددة فقط تتوفر فيها الشروط والمعايير العلمية؟
ثانياً: الموضوع البحثي
تأتي بعد ذلك مسألة اختيار موضوع الرسالة الجامعية كمشروع للبحث والدراسة العليا والذي يشترط أن يكون الطالب ملماً بقدر لابأس به حول خلفياته وأساسياته وتساؤلاته، ونواقصه، وتطلعاته، وقدرته على إضافة ما يكمل ما بدأه غيره من البحاث والدارسين السابقين، إيماناً بأنّ البحث العلمي هو جهد تراكمي وتكاملي بدأه سابقون، ولا يتوقف عنده شخصياً وغيره من اللاحقين، وكذلك لن ينتهي بعدهم، أي كما قال أحد العلماء بأن البحث العلمي هو أن تقول ما لم يقله باحثون آخرون، تأسيسا على ما قاله باحثون سابقون.
والموضوع في تصوري يجب أن يكون أصيلاً متفرداً يتجذر في الشأن الليبي وظروف البيئة الوطنية الليبية بجميع أشكالها، ليسلط الضوء على أعلامها ورموزها، ويضيء بعض صفحات تاريخها، ويجد حلولاً لبعض مشاكلها في المجالات كافةً ولو نسبياً، ولكن لا عيب أن تكون فكرته مستوردةً من مجتمعات أخرى، أو باستخدام نفس المنهجيات البحثية المعروفة، ولكن لابد أن يكون الاسقاط والتحليل البحثي على نسخة ليبية صرفة.
وبالنسبة لسوء اختيار الموضوع فقد حضرتُ العام الماضي مناقشة رسالة ماجستير حول رواية أدبية ليبية وحيدة لم ينشر مؤلفها غيرها، وهو لا يصنف من بين الروائيين الليبيين إلا بتلك الرواية اليتيمة، ولا تتوفر نسخ ورقية من روايته يتيح الاطلاع عليها بشكل واسع بين القراء، وبالتالي لم يستطع الأساتذة الممتحنون ومن تولى الإشراف كذلك، الاطلاع على نصِّ تلك الرواية وتفاصيلها وشخصياتها وأحداثها ورسالة موضوعها، واكتفى جميعهم ببناء أحكامهم ونقودهم على ما ورد في رسالة الطالبة التي أعدتها وكتبتها حولها، وبذلك جاءت ملاحظاتهم التي أجازوا بها الرسالة عامة سطحية بلا عمق، وعابرة غير دقيقة، ولا تغوص في ثنايا الرواية لأنهم ببساطة لم يطالعوها. فكيف يتم اختيار هذه الرواية غير المتوفرة والتي لم يطالعها أحد لتكون موضوعاً بحثياً لنيل درجة علمية عليا؟
وأيضاً حول اختيار الموضوع كنتُ قد حضرتُ هذا العام أيضاً مناقشة رسالة حول الشعر فلاحظتُ أن الطالبة والمشرف لا علاقة لهما بالشعر لا من قريب ولا بعيد، كما أن إمكانيات الطالبة اللغوية كانت عاجزة تماماً سواء على صعيد فقر قاموسها اللغوي من المفردة التعبيرية أو عدم قدرتها وتمكنها من الدفاع عمّا كتبته في الرسالة لأنها لم تختر موضوعها أساساً، ولا تمتليء بمعارفه وتقنياته فكانت تائهةً بعيداً عن مجال بحثها، وفاقدةً لكلماتها اللغوية والأسلوبية والمهارة الشخصية في الرد والدفاع والمناقشة. فهل يجوز أن تمنح درجة علمية عليا بينما هي تفتقد لأسسها واشتراطات الحصول عليها؟ وهذا يجعلني أصر على ضرورة امتحان الطلبة في اللغة العربية كشرط أساسي لقبولهم وتسجيلهم في الدراسات العليا، فمن لا يجيد اللغة لا يحسن التفكير، كما أنه لا يستقيم مفهوم أي معنى ما لم تستقم اللغة التي تعبر عنه.
وبكل أسف ومرارة لقد وجدتُ بأن عملية اختيار الموضوع البحثي يتولاها غالباً الأستاذ المشرف ويختار موضوع البحث للطالب، ويجبره على كتابة بحثه حوله، لغايات متعددة من بينها أن ذاك الأستاذ لا يستوعب غير هذا الموضوع الذي ربما يكون قد تناوله شخصياً عند نيله لدرجتي الماجستير والدكتوراة، وأشبع دراسة وبحثاً وتحليلاً، ولم يعد يتحمل المزيد. كما أن بعض الأساتذة لايزالون تقليديين ولا يطالعون مستجدات المنهجية البحثية الحديثة، ولا يواكبون التطورات العلمية في مجالاتهم ويكتفون بما نالوه من معارف صارت قديمة، وبسبب أعمارهم الطويلة المديدة صاروا لا يملكون القدرة الذهنية لتطوير مهاراتهم في مواكبة تطورات تقنيات الحاسب الآلي والقراءة الالكترونية وغيرها من الجوانب العلمية البحثية.
أ- آلية البحث العلمي:
أغلب رسائل وأطروحات البحث العلمي في ليبيا تقوم على التجميع ورصَّ المعلومات دون محاولة لفرزها وتقييمها والتأكد من صحتها ودقتها. كما يلاحظ غياب صوت الطالب الباحث في متن الدراسة بشكل كبير، مما يجعلها بلا رأي إضافي جديد يضم إلى ما تتبعته الدراسات السابقة، وبالتالي يظل بحث الطالب بلا جدوى حقيقية ولا يمثل إضافة للعملية التراكمية.
ب – لغة التدريس والمناقشة :
لاحظتُ في أقسام اللغة العربية بكل أسف سيادة اللهجة العامية أثناء مناقشات الرسائل والأطروحات الجامعية على حساب اللغة التي كتبت بها الرسالة أو الاطروحة والتي هي العربية الفصحى، وهذا بلا شك يعد تناقضاً في اعتبار اللغة العربية هي لغة الدراسة، وتقصيراً مشتركاً واضحاً بيناً يتحمله الأساتذة والمؤسسة العلمية والطلبة بشكل جماعي. ولكل ذلك أكرر المطالبة بضرورة وضع امتحان لإجازة طالب الدراسات العليا في مستواه اللغوي كتابة وشفاهة ليتمكن من الكتابة والدفاع أثناء مناقشته.
ثالثاً: الأستاذ الجامعي
يعد الأستاذ الجامعي الركيزة الأساسية للجامعة والمحرك الحقيقي لعملية البحث العلمي والدراسات النقدية والابتكارية المتنوعة. كما أنه أحد الأدوات المهمة في نقل العلوم والمعارف والتجارب في العملية التكوينية العلمية والشخصية على حد سواء، ولا يمكن لنا أن نتخيل جامعة بدون الأستاذ الجامعي، فهو العنصر الأساسي الفعال في قيامها بدورها العلمي والمجتمعي، لأنه مهما توفرت للجامعة من إمكانيات مادية لوجيستية مثل القاعات والمختبرات والأجهزة فإن من يصنع الفارق يظل هو الأستاذ الجامعي الكفء بقدوته السلوكية الأخلاقية، وغزارة علومه التخصصية، ومهاراته التدريسية التعليمية وأفكاره البحثية الثاقبة وتطويره لذاته بمواكبة المستجدات العلمية في مجاله. ولذلك فالعمل على تأهيل وإعداد الأستاذ الجامعي والرفع من كفاءته العلمية وتطويرها المستمر يحظى باهتمام الأمم والدول كافة، لأنه قيمة وطنية ووسيلة متقدمة في نقل العلوم والمعارف وتوطين الخبرات في المجتمع.
وبشأن الأستاذ الجامعي المشرف على طالب الدراسات العليا فهو يعتبر المساعد الأول والعون الأساسي الحقيقي في التوجيه والإرشاد لكتابة بحثه في القالب الفني والإطار الصحيح وفق المنهجية العلمية، ولكن لا يتحمل المسؤولية عن المستوى العلمي للدراسة البحثية إلاّ الطالب نفسه سواء جودتها أو رداءتها. وعدم فهم هذه العلاقة الثنائية بين الطالب والأستاذ المشرف جعلت الطالب يتوهم أن مشرفه سيكون له حامياً وداعماً ومدافعاً عنه، يتكيء عليه في مرافعته أمام الأساتذة الممتحنين، بينما الأستاذ المشرف غير المتمكن والعارف بمثل هذه الأسس، ومن خلال جهله بها يورط طالبه أحياناً في مواضيع ومنهجيات لا تخدم العمل البحثي، مستغلاً دوره الاشرافي ليقوم بنقل جهد طالبه في تجميع معلومات أو بيانات فيعيد ترتيبها بشكل ما، ويشارك بها في مؤتمرات علمية باسمه الشخصي من أجل الحصول إما على فرصة إيفاد خارجي للمشاركة، أو لنشرها بإحدى المجلات المحكمة من أجل ترقيته الوظيفية العلمية بالجامعة. أو أن يكون المشرف متعالياً متحدياً لطالبه مستفزاً ومكابراً على مستواه، ولا يمؤمن بأن هذا الطالب قد يصبح يوماً ما زميلاً له بنفس الجامعة والقسم، وإن تحليه بروح منفتحة ودودة لا تخل بالضوابط العلمية، يمنحه القدوة الحسنة خلقاً وعلماً، ولكل ذلك يظل تأهيل وإعداد الأستاذ الجامعي مهماً جداً، واختياره مشرفاً في الدراسات العليا مسؤولية خطيرة جداً كذلك.
أ – أستاذ جامعي بتقدير “مقبول”:
بكل أسف ومرارة ألاحظُ أن أعضاء هيئة التدريس في ليبيا الذين نالوا الشهادة الجامعية الأولى (البكالوريوس أو الليسانس) بتقدير “مقبول” أي (أقل من 65%) يمارسون عملهم أساتذةً بالجامعات والأكاديميات الليبية بمخالفة قانونية صريحة للائحة أعضاء هيئة التدريس الجامعي رقم 501 والقانون الجامعي 2 لسنة 2018م والتي بكل أسف ومرارة جاء الاستثناء من التقدير في المادة رقم 6 بهذه اللائحة مخالفاً لجوهر وفلسفة التعليم الجامعي الحقيقية وغاياته وأهدافه التعليمية الوطنية المتقدمة في خلق جيل متعلم، والاستثناء من التقدير العالي لا يحقق هذه الغاية والأهداف السامية التي نصت عليها المادة 109 من قرار اللجنة الشعبية العامة رقم 501 لسنة 2010م بشأن إصدار لائحة تنظيم التعليم العالي ولن يحقق هذه الأهداف السامية إلا من يملكون النصيب الأوفر من التقدير العالي المتقدم لأنه بكل بساطة أكرر (فاقد الشيء لا يعطيه).
ب – أستاذ جامعي بمسارات دراسية متغيرة:
إن تغيير المسار الدراسي لعدد كبير من أعضاء التدريس الجامعي لا يمنحهم الأهلية القانونية لممارسة عملهم كأساتذة جامعيين ومشرفين بالدراسات العليا، لأنهم يفتقدون شرطاً أساسياً هو ضرورة مطابقة التخصص الدراسي في كل المراحل التعليمية الجامعية والشهادات المتحصل عليها (الليسانس/البكالوريوس، الماجستير، الدكتوراة). ولاشك بأن هذا انحراف كبير بمستوى الدراسة الجامعية عامة والدراسات العليا بوجه خاص، ويسيء إلى سمعة المؤسسة التعليمية (معهد عالي/جامعة/أكاديمية) ذاتها ويقلل من مرتبتها في السلم المهني.
ج – دور النقابة العامة لأعضاء هيئة التدريس الجامعي في ليبيا:
يغيب دور النقابة العامة لأعضاء هيئة التدريس الجامعي في ليبيا كلياً عن اختيار أعضاء هيئة التدريس الأكفاء بالجامعات الليبية صوناً لكرامة المستوى التعليمي الجامعي من الانحطاط والإنزلاق إلى مستوى متدني جداً لا يحقق الأهداف المرجوة التي وجدت الدراسات العليا من أجلها ولا يحقق طموحات المجتمع الليبي في الاستفادة من بيوت الخبرة الجامعية.
فالنقابة لا ترسخ معايير مهنية علمية تشترطها فيمن يزاول مهنة التدريس الجامعي، ولا تمنح رخصاً لهذه المهنة تتأسس على مستويات علمية محددة تلبي الشروط القانونية الواردة في قوانين ولوائح أعضاء هيئة التدريس الجامعي. فالنقابة يجب أن ترفض منح رخص مزاولة مهنة التدريس الجامعي لمن يحملون تقديرات علمية دون درجة (جيد) وللذين غيّروا مساراتهم الدراسية احتراماً للجهود المتفوقة وتقديراً لها وإيماناً بأن غايات الدراسات العليا وأهدافها كافةً لا يحققها إلا المتفوقون المثابرون.
رابعاً: المؤسسة الجامعية
إن المؤسسة الجامعية التعليمية بنظامها الإداري المواكب لتطورات سياسات الموارد البشرية الحديثة الخالية من البيروقراطية القاتلة للزمن ولطموحات الطلبة الشباب، والمرهقة لأعضاء هيئة التدريس الأنقياء العاشقين للتعلم والمعرفة والبحث، والمحفزة للجميع على بذل الجهد وإنتاج أعمال بحثية ذات أهمية للمجتمع تمنح المؤسسة التعليمية مراتب متقدمة، وكذلك بإمكانياتها اللوجستية كالمكتبة بالدرجة الأولى التي يجب أن تتضمن أحدث الإصدارات من الكتب المتخصصة والدوريات والمجلات العلمية المختلفة وشبكة الانترنت الفائقة السرعة للوصول إلى روابط الكتب الالكترونية والتواصل مع الأساتذة والزملاء داخل المؤسسة الجامعية وخارجها فيما يعرف الدراسة عن بعد Distance Learning. كما تهيء المؤسسة إمكانيات الطباعة والنشر للدراسات البحثية وإصدار المجلات المحكمة، وتنظيم الندوات والمحاضرات لتبادل الأفكار والنقاشات المثمر. وأيضاً تخصيص الميزانيات المالية اللازمة للإنفاق على الزيارات الطلابية العلمية للمؤسسات المناظرة في الداخل والخارج، والانفتاح على قطاعات المجتمع في التبادل المعرفي والتشاور والمشاركة في إيجاد الحلول والتطبيقات العملية العلمية للمشاكل والتحديات التي تواجه قطاعات المجتمع. وكذلك تنظيم الأيام المفتوحة Open Days أمام الشباب وأولياء الأمور للزيارات التعريفية والتسويقية والاطلاع على الإمكانيات المتوفرة بالجامعة من قاعات ومكملاتها ومكتبات ومعامل ووسائل تقنيات مختلفة.
الطموح …. وأخلاقيات البحث العلمي:
لا يقتصر دور الدراسة والبحث على التركيز على العلوم في حد ذاتها، بل يتعداها لترسيخ القيم والأخلاقيات النبيلة في إنجاز مهمة البحث العلمي والتي تتأسس على عدة جوانب تخص سلوكيات الباحث تجاه الموضوع الذي يتولى دراسته، وتجاه الأستاذ وتعامله معه، وتجاه زملائه ليكونوا دعماً له ويبادلهم المشاركة في الرأي والاستفادة المتبادلة، وتجاه المؤسسة الجامعية بكل طواقمها الإدارية ومشمولاتها المكملة للبحث العلمي مثل المعامل والاجهزة والقاعات وغيرها، وأخيراً تجاه المجتمع الذي دفع به للنهل من العلوم المتخصصة وترقبه لما يسهم به من تطوير وتقدم هذا المجمتع في جميع أركانه.
يقول الدكتور نجيب الحصادي في مقالته الرائعة حول مستوى الدراسات العليا في ليبيا واستراتيجياتها وإمكانياتها المفقودة (ثمة فرق بين التلميذ وبين الطالب. التلميذ يتلقى العلم، والطالب يطلبه، ويحرص على طلبه، ويسعى إليه، ويبحث عنه، ويبحث فيه، ولا يرضى به إلا بعد أن يتحقق منه، فإذا تحقق منه، طلب غيره. والطلاب في جامعاتنا، أو قطاع واسع منهم، تلاميذ، فهم يتلقون العلم، ولا يطلبونه، وأسوأ من هذا أنهم يحرصون على تلقيه بالحد الذي لا يكلفهم حفظه بذل جهد يذكر. ولهذا فإن أسعد خبر يتوقون إلى سماعه هو أن هناك أجزاء من المنهج الدراسي لن يسألوا عنها في الامتحان. والأساتذة في جامعاتنا، أو قطاع واسع منهم، يكرسون هذا التصور الشائه للتعليم، فالحقيقة عندهم واحدة، ووحدهم العارفون بها، وعلى التلاميذ أن يتلقوها منهم، ويردوها إليهم يوم الامتحان، ولا شأن لهم باحتفاظهم بنسخة منها، بل إن البعض منهم يفضل ألا يُحتفظ بنسخة منها، كي تكون الحقيقة حكرا عليهم. وفي يوم الامتحان، يكرم المرء أو يهان. يكرم إن أدى الأمانة التي يؤتمن عليها وردها على حالها إلى أصحابها، ويهان إن ضيعها، بأن يشكك فيها، أو يردها إلى أهلها ناقصة. ولهذا فإن خريج الجامعة، في أفضل أحواله، نسخة شائهة من أستاذه. غير أن من شابه أستاذه فقد ظلم؛ ظلم أستاذه، وقبل أستاذه، ظلم نفسه.)
ويفكك الدكتور زاهي المغربي العبارة السائدة التي تقول بأن (البحثُ العلمي هو أن تقول ما لم يقله باحثون آخرون، تأسيساً على ما قاله باحثون سابقون) فيؤكد أن أهم استحقاقات البحث العلمي وأولها هو استحقاق الأصالة، الذي تشير إليه عبارة “قول ما لم يقله الباحثون الآخرون”، والاستحقاقان الثاني والثالث، التوثيق والمراكمة، مضمران في عبارة “تأسيسا على”، والاستحقاق الرابع هو مراجعة الأدبيات، الذي تشير إليه عبارة “ما قاله باحثون آخرون”. وتأتي هذه الاستحقاقات الأربعة مرتبة وفق أهميتها، فالأصالة أهم من التوثيق والمراكمة، والتوثيق والمراكمة أهم من مراجعة الأدبيات. غير أن الاهتمام في الجامعات والأكاديميات الليبية ينصب أساساً على التوثيق ومراجعة الأدبيات، الاستحقاقين اللذين يتطلبان، نسبياً، الحد الأدنى من الجهد البحثي. أما نصيب كل من الأصالة والمراكمة، الاستحقاقين الأصعب على الإيفاء، فيشي بأنهما لا يوليان الاهتمام الذي يليق بخطرهما، لا على مستوى الباحثين، ولا على مستوى المشرفين على أبحاثهم.)
أخلاقيات التعلم:
تحوز أخلاقيات المهن أهمية خاصة في مجال التدريس الجامعي حيث أنجزت الكثير من الدراسات والأبحاث التي أفرزت مواثيق الشرف والمباديء الملزمة لجميع أطراف العلمية التعليمية: الأستاذ والطالب والمؤسسة الجامعية. وكل ذلك يتأسس على أن العلم ينشد المعرفة ويتحرى في ذلك معايير منهجية غاية في الانضباط، ولا يمكنه أن يختار التضحية بالقيم النبيلة والسلوكيات الأخلاقية السامية من أجل العلوم. فالاحترام والمصداقية والشفافية والنزاهة والأمانة والكرامة والعدالة كلها مباديء رفيعة ومسؤولية جماعية مناطة بجميع عناصر العملية التعليمية ولا يمكن تجاوزها لأجل أي هدف كان.
إن التأكيد على أخلاقيات التعلم والمباديء القيمية التي تتأسس عليها العلوم ليست مستجدة في تاريخ العلوم، بل هي عريقة وأصيلة منذ عقود زمنية طويلة صدح الشعر العربي مؤكداً عليها ومطالباً بالالتزام بها:
لاَ تَحْسَـبَنَّ الـعِلْمَ يَنْفَعُ وَحْــدَهُ مَـا لَمْ يُـتَـوَّجْ رَبُّـــــهُ بِخَــلاَقِ
وَالعِـلْمُ إِنْ لَمْ تَكْتَـنِــفَهُ شَـمَائِلٌ تُـعْــلِيهِ كَانَ مَطَيَّةَ الإِخْفَـاقِ
الخاتمة:
ربما لأنني منذ البواكير العمرية ترسخ إيماني بهذه المباديء الأساسية في البحث العلمي واشتراطات وغايات وأهداف الدراسات العليا هو السبب الذي جعل أعضاء المثابة الثورية بكلية العلوم يرفضون الموافقة على تعييني معيداً بالكلية حين تخرجتُ بترتيب متقدم ضمن الدفعة الأولى رغم قبولي بالقسم، وربما لأن هواجس البحث العلمي كما أراها لازالت سطحية أمام ما يتعمق في بواطنه الفنية الخاصة بتفاصيل تقنيات البحث، وجدولة المتابعة الزمنية، وغيرها من الجوانب التي غابت عني في هذا العرض الاستعجالي البسيط، والذي تظل غايتي منه تفادي ما يقع اليوم من عثرات وقصور وممارسات تشين البحث العلمي، ولا تنصف جميع العناصر والأطراف وكل من يلتحق وينخرط به، فتوسمه بالسطحية المعرفية، والتصحر الفكري، والتباهي دون الاهتمام بقيمة وأهمية وأصالة البحث العلمي وتأثيراته المختلفة في الدراسات العلمية والحياة المجتمعية.
إن غاية هذه الكتابة هي مناقشة ما ورد بها من ملاحظات ونقود، وهي منفتحة على الجميع بقبول التصويبات والتصحيحات وكذلك الاضافات والتعديلات والتعليقات لأنها بذلك تخلق ديناميكية حوارية تهدف للرفع من مستوى الدراسات العليا والبحث العلمي كافة ….. والله ولي التوفيق.















