محمد الزروق
سيأتي اليوم الذي أخبركم فيه أنني كنت في يوم من الأيام ملكا متوجا على هذه المدينة، فكل ما فيها وعليها كان ملك يميني. أعرف شوراعها وأزقتها شارعا بشارع وزقاقا بزقاق، مثلما أعرف عن ظهر قلب ملامح أهلها. لا شيء كان يمنعني من أن أجوب دروبها في أي وقت. تعرفني الحيوانات والسيارات، كما يعرفني دراويشها ومتشردوها وفتواتها. متى شئت أخرج فيها، فإذا وجدت كرسيا شاغرا في حديقة عامة أجلس عليه، وإذا لم أجد كرسيا ففي مدينتي ألف مصطبة وآلاف الأمتار من الأرصفة العالية المعدة للجلوس. أستطيع أن أنام ملء جفوني وكأنني في سريري في أي مكان أتبوأه على امتداد شاطئها وكورنيشها.
لن يكون ذلك اليوم الذي سأخبركم فيه أنني كنت أحكم هذه المدينة بعيدا. كل من يتسكع فيها مثل درويش يمتلكها، لكن الدراويش لا يشعلون حروبا على الملكية. إنهم يتعايشون. لا نراهم حتى يطلقون السلام على بعضهم البعض، غير أنهم في ذات السياق لا يضايقون بعضهم البعض، لأنهم يدركون أن قلب المدينة أكبر من أن يضيق ذرعا لعدد غير متناه من الملوك.
في مدينتي لا يموت أحد من الشر. أذكر أنني كنت في طرابلس، وقابلت أستاذا جامعيا درس في جامعتنا قبل أن أولد، فقال عندما عرف أنني من بنغازي: لا أحد في برقة يجوع، وإذا جاع فإن بنغازي كفيلة بإطعامه. قبل أن تغلق محال البقالة أبوابها كانت تترك دولاب الخبز مفتوحا وصناديق الخضروات متاحة لمن يريد الحصول على سندوتش رخيص، أو يشتهي صنع شرمولة. بل إن عددا لا بأس به من القصابين كان يحتفظ ببقايا العظام في ثلاجته ولا يرميها للكلاب التي يضاهي عددها عدد سكان المدينة، لأن بعض الرجال (العصارى) والذين يعولون كانوا يأتون آخر المساء ويتساءلون في عزة: ما فيش عندك عظم زايد عليك؟! سألت أحدهم يوما (بصفتي حاكم المدينة، أو بالأحرى أحد حكامها الكثيرين الذين يتسكعون عقابات الليول لتفقد أحوال الرعية): جراء يا حاج؟! فابتسم الرجل الذي اختلط سواد لحيته ببياضها: يعلم الله أنهم جراء..
لم أفكر في أن أهبه مما في جيبي شيئا، لأنني كنت متيقنا أنه سيرفض الصدقة في أنفة. مسكين! كان بإمكانه أن يكون حاكما للمدينة مثلي، يتسكع في أزقتها الضيقة فلا يتزوج ويتحمل جريرة الجراء. إن أول شرط لتكون حاكما لبنغازي هو ألا تتزوج، مع أنهم أخبروني أنه في قديم الزمان كان من بين حكام المدينة أشخاص متزوجون، رموا بأعتاب المسؤولية أدراج الرياح: فمنهم من امتهن لعب كرة القدم في ملاعبها الإسفلتية كل مساء، ليعودوا (بعرقهم)، ومنهم من احترف لعب الكارطة بأنواعها في المقاهي العديدة، فإذا جاعوا فالأمر يسير. إن أول (سهرية) تقابلهم كفيلة بأن تقدم له الخبز والجبن والتونة والحلوى المعجونة وأكواب الشاي، سحورا في غير أيام رمضان، ولا يكلفهم ذلك إلا أن يترحموا على الميت أو الميتة.
كانت أبواب كل الأماكن في المدينة تفتح لي مهما استعصت. كانت كل حوائجي تقضى مهما صعبت. أذكر أنهم قرروا أن يجبروا من يدخل إلى السوق على دفع مبلغ رمزي. أغضبني الأمر، فقد اعتدنا ألا ندفع إلا للسينما والمسرح ومباريات كرة القدم، بل إن كثيرين منا لا يدفعون لها، ويدخلون (بالدلالة) عن طريق حراس الأبواب. أخبرت الحارس: ليس معي هذا المبلغ، فرد: لا يهم كثيرا! ادخل..
ثق من أنك إن كنت تستطيع أن تصنع البهجة لك ولنفسك بدون أموال تنفق أو بأقل القليل منها فإنك ملك متوج.. تمتلك الشاطئ بطوله، فتسبح أينما شئت، ولك الأرض كلها فتمرح كيفما أردت، وبيدك الشوارع كلها فتتمشى أنى رغبت، وبحوزتك مفاتح البيوت كلها فتدخل حيثما أحببت فإنك مثلي ملك متوج. أنا أشفق على حكام العازة وملوكها لأنهم حرموا من أجمل نعمة، وهي أن يكونوا بين الناس، ومن الناس، ومع الناس.
مثلنا يقول: اللي كيف الناس.. لا باس..
عندما تقفل أبواب المدينة في وجهك، وتستعصي شوارعها وأزقتها على حذائك البسيط، ولا تجد خبزا وخضارا ولحما بعظم مجانيا في محالها، ولا تعود تألف وجوه الناس ولا تعرف أحدهم.. إذا أنكرتك الوجوه والسيارات والكلاب في المدينة ولم تجد مأتما يستقبلك في أصحابه بالغداء أو العشاء والسحور، فثق أنك لم تعد ملكا، وأنك كنت حتى عهد قريب آخر الدارويش.