حاوره : سالم الحريك
كاتب مفكر وناقد وأديب وباحث متخصص بأدب ومسرح وثقافة الأطفال اختار أدب الأطفال، بعد أن ولج رغبته، وشغفه ونال همه واهتمامه منذ سنوات الطفولة، و أنتج في هذا الميدان ما يشار له بالأهمية والدقة والرقي من الإسهامات الأدبية والعلمية التي كان الكثير منها منهجاً ومرجعاً علمياً لمئات الدراسات والمسارات والمساقات الإبداعية والعلمية في عموم الوطن العربي. له تجربة تجاوزت أكثر من 45 عاما وصدر له خلالها ما يقرب من 200 كتاب في أدب الأطفال شعرًا وقصة وحكاية شعرية ومسرحيات إلى جانب ستة دواوين شعرية للكبار.
كذلك صدر لضيفنا 30 كتابا علميا في الدراسات الفكرية، والنقدية المتخصصة بأدب ومسرح وثقافة الأطفال، وتعد الآن من بين أهم المراجع الأكاديمية في وقتنا المعاصر. تحصل على العديد من الجوائز العربية والعالمية منها الجائزة الأولى في شعر الأطفال من هيئة رعاية الطفولة عام 1994 الجائزة الأولى في شعر الأطفال من دائرة ثقافة الأطفال عام 2009 الجائزة الأولى في شعر الأطفال من وزارة الثقافة عام 2010 وجائزة أفضل كاتب لمسرح الأطفال في استفتاء مؤسسة عيون للثقافة والفنون عام 2010 جائزة عيون للإبداع في أدب وثقافة الأطفال لعام 2014 والعديد من الجوائز الأخرى. وجائزة عبد الحميد شومان لأدب الأطفال في مجال الدراسات النقدية عام 2010 وجائزة تازة الدولية الثانية في الكتابة المسرحية للأطفال عام 2015 .
ضيف “فسانيا” في هذا الحوار، بحر من بحور أدب الأطفال، ومن أهم مراجعه في وقتنا المعاصر تجاربه عديدة، ومتنوعة لا يمكن أن نحصيها في هذا الحوار، ولكننا سنقترب من أهم، وأبرز ملامح هذه الشخصية، ونخوض معها تجربة المعرفة، والاكتشاف والغوص في أعماق هذا الأدب الهام والفريد. حوارنا مع الكاتب والمفكر والناقد والأديب المتخصص في أدب الأطفال وكذلك الشاعر والباحث الخبير الدكتور فاضل الكعبي
بداية ماذا يعني لك أدب الأطفال في منظور رؤيتك الأدبية له وفي منظور ما تراه في حياتك العامة ؟
أدب الأطفال عالم مهيب من الكتابة الأدبية المغلقة على نفسها وبنفسها حدّ الانفتاح الواسع على سحر ما في الكون كل الكون من عوالم تسبح في الواقع والخيال لتعود إلى نضج الطفولة وخيالها بشيء فوّار من النماء والتطور المتواصل في إنعاش القدرات والكلمات والنظرات والخطوات والسلوكيات والمهارات بشيء مما هو راقٍ ويرقى بها نحو آفاق واسعة من الجمال والبناء والتطور !.
هكذا هو أدب الأطفال ، مثلما يعني لي وأعني به وله تتجه عنايتي الفائقة فأعتني به كما يجب ، وكما يرجو مني وبما يتطلب له من عناية فائقة أحرص على أن أقدمها في مساراته دوماً ، لتشرق بالجديد وتكون ساحرة في عالمه ، لكي أراه ويراني كما أريد وكما يريد هو لعالمه ، وأدب الأطفال في رأيي ورؤيتي الكونية والأدبية هو هذا العالم ، كل العالم في منطلق مهيب من صياغات لغوية وصورية وخيالية وتربوية وتعليمية ونفسية وسلوكية وإدهاشية تحدث سحر الأثر والتأثير في شخصية متلقيه فيحلق به عاليا عالياً كما يريد ويراد له في لغة الأدب وتمظهراته الصورية الظاهرة والباطنية في متن الكتابة وصوغها ، وأدب الأطفال هذا الأدب الصغير الكبير ، والمكابر المغامر ، كان منذ بذرته الأولى ، قد دخل بوابات الأدب العام وتمدد في مثاباته وميادينه على نحو خاص وحذر من باب الدهشة والإثارة والخيال والمغايرة والغرابة والسحر ليسحر المتلقي له ذلك القارىء الصغير بكل ما يجتهد ويجدُّ له ويجود من خطاب السحر والجمال والإدهاش ، بلغة مغايرة تفيض بما يثري خيالات الطفل ويستفزها نحو الارتقاء إلى الأحسن والأنبل والأكثر قدرة على الحسن والأجود والإجادة بما هو جيد ويجود للأجود في عوالم الطفل والطفولة ، ذلك الآتي من منظورات المستقبل وتأملاته وخيالاته وأمانيه وأحلامه في وضح الحاضر وتطلعاته على دوام الوقت في شغله وانشغالاته .
ولهذا يأتي أدب الأطفال ليعني لي محمول الكون وما فيه وأنا أتوجّه في خطابي الأدبي والتربوي والجمالي والنفسي لمخاطبة الطفل بهذا الأدب ، الذي يعني لي وأريده أن يكون مركباً ثقافياً ساحراً يحمل كل ما يجب من قيم الثقافة الخاصة بالطفل بكل معانيها وقيمها وفنونها وتقاليدها وإرثها وإشراقاتها في حياة الطفل ، ولذلك فأدب الأطفال في منظور آخر من نظرتي الأدبية والثقافية هو مدرسة الحياة الأكثر قدرة على تحفيز مكامن الجمال والنماء والسلوك الحسن في شخصية الطفل ، وبذلك يعني لي قاعدة جمالية مهمة وضرورية للارتقاء بعوالم الطفل ودون اللجوء إلى هذه القاعدة والانطلاق منها خصوصياً في عمليات تنشئة وتهذيب الطفل سيكون هناك بما يكون من الاختلال والإخلال بنسب السمو والجمال والبناء الصحي والصحيح في شخصية الطفل الثقافية والسلوكية.
ألهذا اخترت أدب الأطفال ، أم ماذا ؟ ولماذا تخصصت به على نحو خاص ولك تجربة أخرى في الكتابة والشعر بوصفكم من الشعراء المعروفين في شعر الكبار ؟
نعم ، لكل ما قلت و ذكرت ولغيره كنت اخترت أدب الأطفال بكل عناية واهتمام ، بل أشعر أحياناً أن أدب الأطفال هو من اختارني ، منذ أن ولج رغبتي وشغفي ، ونال همّي واهتمامي منذ سنوات الطفولة ، وكثيراً ما أرى ذلك برؤية الأدب هذا وإرهاصاته بخطّي الكتابة للكبار وللصغار كما جرت العادة فيما سبق من سنوات ، كنت فيها أنطلق في مسير تجربتي الإبداعية في الكتابة بخطوتين متوازيتين معا سارتا بخطين في هذا المسار ، خط الشعر وكتابته في عالم الكبار ، وخط الطفولة والكتابة في عوالمها ، غير أني تجاهلت الخط الأول وأهملته لصالح الطفل والكتابة له ، بعد أن أيقنت برهاني على أدب الطفل وأهميته ، منطلقاً إلى الإيمان المطلق به وبضرورة وأهمية التخصص به ، لأكون الباني في عوالمه وساحاته ، نعم ، أنا الآن الباني الدقيق والحريص ضمن البناة الآخرين الذين يجدّون ويجتهدون لبناء الإنسان ، ولا بناء صحيح لهذا الإنسان ما لم ينطلق البناء الصحيح من الطفل والطفولة بكل أدواتها وعوالمها ، ولهذا اخترت أدب الأطفال لأنه كما أرى لبنة أساسية ومهمة وضرورية لا غنى عنها في بناء الطفل ، البناء القويم والصحيح ، ولذلك رحت أكتب فيه أبني ما أقدر عليه من أبنية بنّاءة في هذا الأدب لينطلق فيها ومنها الطفل انطلاقة الحياة على سعتها ، وهذا ما دفعني بكل حرص وعناية إلى التخصص به وهو تخصص نادر ومهم وصعب المراس في الروح والنفس والحواس !. كيف تقدم أدب الأطفال ، هذا النوع الخاص من الأدب بعد كل هذا المشوار وهذه الإسهامات البارزة في هذا الأدب ؟
قدمته باجتهادات صائبة ، وبجهود دقيقة ، وبدرجات محسوبة ومدروسة بعناية ، لكي يأخذ مساره الصحيح وتأثيره الأكيد وأثره البالغ في حواس الطفل وفي قدراته وفي مجمل اتجاهات شخصيته الإنسانية السوية ، وقد واجهت في هذه الاجتهادات وهذه الجهود كمًا من التحديات والمصاعب لكنني والحمد لله واجهتها وذللتها بما يجب وكما يجب ، باستشارة ومشورة ذلك الطفل الكامن في أعماقي ، مع الأخذ بما يريد وما لا يريد في مكنون الكتابة ، تلك الكتابة التي تعرضها نفسي على الناقد المتخصص والحريص في نفسي ذاتها ، إلى جانب في نفسي ذاتها ، بوصفي ناقدا وباحثاً متخصصاً في الوقت ذاته إلى جانب ما أقوم به وأكون فيه بوصفي أديباً وكاتباً يكتب للأطفال بما يراه من العناية والاهتمام والجودة التي أريدها لكتابتي هذه ، مثلما أريدها وأحث عليها في كتابة الآخرين ، ولذلك جاءت كتاباتي وإسهاماتي في أدب الأطفال تلك المتعددة الجوانب والمتنوعة بتنوع أجناس الأدب واتجاهاته في الشعر ، والقصة ، والحكاية الشعرية ، والمسرحية الشعرية والنثرية ، وقصص وروايات الفتيان اليافعين ، جنباً إلى جنب الدراسات والأبحاث العلمية ، الفكرية والنقدية التي تضع معايير الكتابة والأدب في المعيار الصحيح والمتطور في ميدان أدب الأطفال وثقافتهم ، والحمد لله أنتجت في هذا الميدان ما يشار له بالأهمية والدقة والرقي من الإسهامات الأدبية والعلمية التي كان الكثير منها منهجاً ومرجعاً علمياً لمئات الدراسات والمسارات والمساقات الإبداعية والعلمية في عموم الوطن العربي ، لأكون فخوراً بها وبما قدمت على مدى ما سرت فيه من مسار تجربتي التي امتدت لأكثر من 45 عاماً من الكتابة والإبداع .
للأديب أو الكاتب في مجال أدب الأطفال معايير وصفات معينة يجب توفرها في طاقته ومهارته وقدرته وفي عموم شخصيته الإبداعية ، ترى ما هي أبرز هذه المعايير والصفات التي تمكنه من أن يكون كاتباً جيداً في هذا المجال ؟
من بين البارز والأبرز في هذا المجال ، وقبل كل شيء أن يمتلك موهبتين أساسيتين ومهمتين غاية الأهمية إحداهما تتصل بالأخرى وتؤازرها ولا تنفصل عنها أو تشذ عن سيرها ومسارها ، الأولى ؛ موهبة الكتابة المتقنة بدرجة عالية من الإتقان والجودة ، والفهم والاطلاع بسعة الخبير والمطلع والعارف بمجمل فنون الأدب والكتابة ودهاليزهما الظاهرة والخفية ، والكاشفة والمكشوفة في واقع الكتابة وفي متخيل هذه الكتابة ، أما الموهبة الثانية فتأتي هنا على قدر كبير من المسؤولية والواجب والخبرة والإتقان ، وتكاد أن تكون بهذا القدر أكبر بكثير من مسؤولية وواجب وخبرة وإتقان الأولى ، فهي تأتي هنا لتسخير الموهبة الأولى وتطويعها تطويعاً فنياً ولغوياً وإنسانياً وأدبياً كاملاً وصحيحاً لتجسيد عوالم الطفولة والانطلاق منها ، لتكون بالمستوى المناسب من عوالم الطفل ومتوافقة كل التوافق مع خصائصه اللغوية والنفسية والخيالية والسلوكية في لغة الخطاب والتخاطب المتوافق مع تدرجات المراحل العمرية المتعددة لكل طفل من الأطفال ، هذا بالدرجة الأولى من بين هذه المعايير وتوصيفاتها في صفة الكاتب المجيد والجيد في الكتابة للأطفال ، وهذا وحده لا يكفي طبعاً في معيارية الكتابة الجيدة للأطفال بدرجة واعية من مهماتها ووظائفها في إجادة الكتابة ومخاطبة الطفل بها ، ما لم يكن لهذا الكاتب قدرات أخرى مهمة وضرورية لتجسيد وتوظيف موهبته في ميدان الكتابة للطفل ، تأتي في المقدمة منها القدرة الكبيرة على فهم الطفل بكل عوالمه ومتطلبات علم نفس
هذه العوالم والوصول بهذا الفهم إلى حدود وعمق الطفل ومحددات فئته العمرية مع إدراك ما تحمله كل فئة من متغيرات نفسية وانفعالية وعقلية وسلوكية ولغوية ، ليكون بذلك على بينة من الاستجابة لكل فئة وحاجة في عوالم الطفولة ، وكذلك الحال في هذا الاتجاه يتطلب من هذا الكاتب امتلاك القدرة الكبيرة والساحرة على الخيال والتخيل الواسع في عوالم الطفولة لكي يأتي فيها بكل ما هو جديد ومثير ومدهش يثير الطفل ويدهشه ويغني مخيلته وذائقته وحواسه بسحر الكتابة وميزتها ، وبهذه المعايير باختصار شديد يمكن لهذا الكاتب أن يجدَّ ويجيد مخاطبة الأطفال والتأثير فيهم من خلال الكتابة الحقيقية لهم ، ليكون كاتباً مؤثّراً ومبدعاً يُشار له بالحسن في الكتابة الجيدة ، ومؤهلاً للدخول إلى ميدان أدب الأطفال ، ليكون بهذا الدخول جديراً بحمل صفة الكاتب الجيد في أدب الأطفال بكل جدارة .
ما هي أنواع أدب الأطفال ؟ وما هي أكثر هذه الأنواع رواجاً في الوقت الحالي من وجهة نظرك ، ولماذا ؟
تجنيسات أدب الأطفال ، أو أنواع هذا الأدب لا تختلف بأي حال من الأحوال في الصفة والتوصيف عما تعارف عليه من أنواع في تجنيس الأدب بصورة عامة ، بضفتيه الأساسيتين ؛ الشعرية والنثرية ، فهناك القصة ، والقصيدة ، والحكاية ، والرواية ، والمسرحية ، ولكل من هذه الأنواع فنه ومتطلباته الفنية والمعيارية في اللغة والتعبير والأسلوب والشكل ، ومع وجود هذا التشابه في التسميات والأنواع التي يشترك فيها أدب الأطفال مع الأدب بصورة عامة ، غير أن أنواع أدب الأطفال تختلف كثيراً عن مثيلاتها في الأدب العام ، وسبب اختلافها وتمايزها هذا يتأتى من اختلاف صفات متلقيها في اللغة والفهم والأسلوب والمبنى والخيال والشكل والمحتوى وغير ذلك ، فأسلوب صياغة وبناء قصة الطفل تختلف عن مثيلتها في قصة الكبار ، وإن اشتركت في المتطلبات الفنية وعناصرها في القصتين من حبكة تتمثل بالفكرة والحدث والشخوص والصراع والزمان والمكان ، غير أن هذه العناصر في قصة الأطفال لها معاييرها ومقاييسها في الشكل والمضمون عندما توجّه لمخاطبة الأطفال ، هذا من جانب ، أما من جانب آخر ، وعلى وجه الدقة فيما يتعلق بالشقِّ الثاني من السؤال ، فإن الأكثر رواجاً الآن في كتابة أدب الأطفال ونشره هو الأدب القصصي ، فالقصة تأخذ الحيز الأكبر من اهتمام الناشر والمتلقي ، وهذا لا يعني عدم رغبة المتلقي بالأجناس الأخرى خصوصاً الشعر والمسرحية ، فالشعر ينشر على نطاق محدود بحجة غير صحيحة أوجدها الناشر ورسخها في صناعة النشر وتوزيعه ، وهي عدم ميل القارىء الصغير لقراءة الشعر ، وهذا الرأي في اعتقادي غير صحيح ويجانب الحقيقة ، فالطفل ميال للشعر بدرجة كبيرة لأنه يستجيب لطبيعته الإيقاعية ، فالطفل هو كائن إيقاعي ، كذلك الشعر هو الآخر في جوهره وروحه لا ينطلق ولا يحيا إلا بصفته الإيقاعية التي تميزه عن التعبير النثري ، أما المسرحية كنص أدبي ضمن نصوص وأنواع أدب الأطفال فهي لا تلقى الرواج ولا تكون أكثر رغبة وتأثيراً في التلقي إلا إذا تجسدت في إطار عمل فني مسرحي وقدمت على خشبة المسرح الخاص بمسرح الأطفال لتكون مشاهدتها أكثر أثراً وتأثيراً من قراءتها.
كيف يمكن مراعاة تغير عقلية الأطفال وأجيالهم خصوصاً أطفال هذا الجيل وما يجده من تطور تكنولوجي لم يكن متاحا للأجيال التي سبقته ؟
ذلك يتم من خلال إدراك معايير الطفولة وقيمها مع إدراك عمق وحدود كل فئة من فئات الطفولة على اختلاف وتنوع سنواتها ومراحلها ، فيكون التعامل بذلك مجديَّاً وواعياً ومتوافقاً مع كل نمط من الأنماط العقلية لمختلف فئات الأطفال على اختلافهم واختلاف أجيالهم ، إذ أنَّ طبيعة الحياة وحتميتها الكونية بالنماء والتطور تحتّم المغايرة والتغيير في أنماط الأطفال العقلية والسلوكية والثقافية ، ووفق ذلك تتغير نظرتهم وأساليب تعاملهم مع الأشياء ، ومن أبرز تلك الأشياء ممتلكاتهم وأغراضهم ووسائلهم الخاصة وفي المقدمة منها ألعابهم وكتبهم وغيرها من وسائل أخرى تدخل في استخداماتهم الاستهلاكية ، وجميع هذه الأشياء قد مرّت عليها التكنولوجيا واستحوذت عليها بمجمل ظواهرها وأنشطتها ومؤثراتها التي نالت دهشة الأطفال في هذا الجيل واحتلت عقولهم احتلالاً كاملاً لا يمكن التحرر منه بسهولة ، بل إن وجهات وتوجيهات قيم التكنولوجيا باتت لهؤلاء الأطفال بمثابة القدوة والموجّه الذي يتحدى بقوته وتأثيره قوة الوالدين والمعلمين وتأثيرهم الذي كان واضحاً وسائداً لدى أطفال الأجيال الأخرى التي سبقت ظهور التكنولوجيا ، ولذلك فإن أطفال الجيل الحالي أو أطفال عصر التكنولوجيا كما نسميهم يتطلب منا مراعاة أثر التكنولوجيا وتأثيرها عليهم بما يجعلنا في مأمن من نتائج التكنولوجيا واحتلالها السلبي لعقول أطفالنا ، خصوصاً مما تحمله التكنولوجيا من نتاج المسارب الثقافية المتعددة الأفكار والثقافات والقيم ، والتي تنفتح على كافة الآفاق والاتجاهات بسلبها وإيجابها والتي راحت تغزو عقل الطفل وترسم خارطة وعيه وتحدد له ما تريده له من مسارات واتجاهات قيمية وثقافية يصعب حصرها وتقييدها والسيطرة عليها ، أو الحد من إشعاعها المغاير ، وذلك لأنَّ كثيراً منها تتعارض مع ما نريده من ثقافة مجتمعية ووطنية أصيلة لأطفالنا ، ومن هنا باتت هناك تحديات مصيرية كبيرة وعديدة ثقافية وتربوية ونفسية وعقلية ، تقف أمام وسائلنا التربوية والتعليمية والثقافية والاجتماعية ، وحتى طرق وأساليب كتابتنا لأدب الأطفال وتتحداها بقوة ، وعلى وسائلنا هذه بكافة وظائفها واتجاهاتها ، ومن ضمنها طرق وأساليب كتابتنا للطفل ومخاطبته ، أن تكون بمستوى هذا التحدي ولا تتراجع عن أداء مهامها ووظائفها وتعمل وتخطو بثبات وقوة وجدارة لتنال أهميتها واهتمامها لدى الطفل وتنال أيضاً ثقته بها وبأثرها وتأثيرها في وجدانه
. • هل يوجد نمط موحد ، ومتقارب ، يتعامل به كتاب الغرب والشرق ومختلف الثقافات في تقديمهم أو كتابتهم لأدب الطفل ؟
لا يمكن أن يكون هناك نمط موحد في هذا الاتجاه ، وذلك تبعاً لتعدد الثقافات واختلاف أنماط وقيم كل ثقافة من هذه الثقافات التي تعكس أنماط كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية وتميزه عن المجتمعات الأخرى في الغرب أو في الشرق ، وحتى في الثقافة الواحدة لمجتمع من المجتمعات لا يمكن أن يكون هناك نمط واحد يمكن الانطلاق منه في الكتابة للأطفال ، وهناك أنماط متعددة من الثقافة ، فثقافة ابن المدينة تختلف عن ثقافة ابن الريف ، وثقافة هذه المدينة تختلف عن ثقافة تلك المدينة وهكذا ، تتعدد الرؤى والأنماط ، مثلما تتعدد مستويات الخطاب ولغته بين كاتب وآخر ، في ثقافة واحدة لمجتمع معين ، ويمكن أن تتقارب بعض الأنماط داخل إطار هذه الثقافة ، ولكن تختلف الأنماط وتتمايز من مجتمع إلى آخر ، ولذلك نرى اختلاف الرؤى والأساليب وحتى القيم في خطابات الكتابة وتجسيداتها للأطفال وثقافاتهم بين كتاب الأطفال في الغرب وبين كتاب الأطفال في الشرق ، انطلاقاً من قيم ومحددات وتطلعات كل ثقافة من ثقافات هؤلاء الكتاب ورؤاهم وتمايزهم إن كانوا في الشرق أو في الغرب
كونك صاحب تجربة نشر غزيرة ، وكبيرة ؛ ما هي المعايير التي تراها متبعة الآن لدى أغلب دور النشر في موافقتها على تبني نشر الأعمال المتعلقة بأدب الأطفال ؟
الجواب : في الغالب ليس هناك من معايير محددة في مسألة النشر لدى أغلب دور النشر العربية ، سوى معايير الجودة وجمال الكتابة وحسن النص ومناسبته للطفل ؛ لغة وخطاباً وجمالاً وقيماً وقيمة ، هذا في الأعم الغالب ، أما في جانب آخر من الدقة والحرص والقبول في النشر ومعاييره الأدق ، هناك أكثر من هذه المعيارية في النشر تعتمدها دور نشر أخرى عديدة تزيد على تلك المعايير معايير أخرى مضافة تبرز من بينها استجابة النص لغايات وأهداف دار النشر ، ومناسبة هذا النص وجديته وجديد فكرته وتمايزها عن غيرها وتجسيدها بأساليب جديدة ومبتكرة ومختلفة ولا تتطابق مع غيرها من نصوص سبق للدار هذه أو تلك نشرها من قبل ، وهذه المعايير هي ما يتم التعامل معها في الوقت الحاضر لدى أغلب دور النشر العربية المعنية بصناعة وإنتاج كتب الأطفال ، وغير هذا هناك دور نشر معينة تتعامل بمعايير أخرى قد تكون متطابقة مع المعايير العامة التي سبق ذكرها والمعتمدة لدى غالبية الدور الأخرى ، إلا أنها هنا تغلب معايير على أخرى بحسب رغباتها وتوجهاتها ، ومنها من تقدم الدين كمعيار أساسي لاعتماد النشر ، أو تعتمد معيار القيمة الأخلاقية ، أو القيمة الترفيهية ، وغير ذلك ، وبين هذا وذاك من أنماط المعيار والقبول في النشر نجد بعض دور النشر تقدم الغثّ وغير المناسب مما يحسب خطأ على أدب الأطفال ، لانطلاقها من نظرة تجارية وغير تجارية في التعامل مع النشر ومنتوجه تحت عنوان أدب الأطفال ، وهي لا تقدم إلا الضعيف وغير الحسن من الكتابة التي يصح أن نعتبرها أي شيء من الأدب ولا يصح أن نعتبرها كتابة صحية وصحيحة في إطار أدب الأطفال .
هل يمكن أن تطلعنا وتحدثنا عن شيء من تجاربك الشخصية في التعامل مع دور النشر العربية بسلبها وإيجابها في نشر كتبك الخاصة ؟.
حقاً هذا السؤال سؤال جدلي وإشكالوي فيه الكثير من المنزلقات والمطبّات ويثير الجدل وأكثر من محور ، وقد عانيت في عوالم هذا السؤال وقضاياه العديد من التجارب والمواقف والمنغصات والإشكالات التي جعلتني أتوقف عند العديد من حالات النشر وأتراجع عن التعامل مع العديد من الدور التي سبق لي ووثقت بها ثقة مطلقة وإذا بها تظهر لي غير ما أنظر وأتأمل منها ، فقد حدثت معي أكثر من حالة مع بعض دور النشر العربية التي سبق لي التعاقد معها في نشر كتبي وقد أخلت بالتزاماتها المالية والمعنوية المنصوص عليها في نصوص العقود التي وقعتها معها ، وللأسف لدى هذه الدور أساليب عجيبة غريبة للتهرب من دفع الحقوق والتنصل عن الإيفاء بالتزاماتها الحقوقية والمالية ، وقد عانيت من ذلك كثيراً ، ووصل الأمر في هذا الحال إلى الشكوى الرسمية لدى اتحاد الناشرين العرب ولجانه القانونية وبعض الاتحادات الفرعية المحلية في هذا القطر أو ذاك ، حيث تم حل بعضها ومازال البعض الآخر في طي الانتظار والحديث الخاص بيننا وبين دار النشر المعنية ، ولا أكتمكم سراً أنني الآن مازلت أعاني من هذه الدور وإخلالها بمواد العقود معي ومنها دور نشر في تونس والإمارات والقاهرة وسوريا ، ومع هذا فهناك العديد من دور النشر العربية المهمة التي نحترمها ونقدرها كثيراً لمصداقيتها العالية في التعاقد وفي انسيابية التعامل القانوني الصحيح والتي أعتز بها وبالتعامل معها في نشر ما يستجد من كتبي بكل الفخر والاعتزاز .
يقول العديد من المهتمين بهذا المجال من الأدب أن الكتابة في أدب الأطفال تعتبر من أصعب الأنواع ، ترى أين تكمن الصعوبة في هذا المجال على وجه الدقة والخصوص ؟.
هذا القول في دقة الصواب والصحة في القول وفي الاستنتاج الموضوعي والفني والواقعي ، فالكتابة للأطفال والتي ينظر إليها من زاوية أخرى ب ( السهل الممتنع ) هي من أصعب فنون الكتابة على الإطلاق ، وقد أشار لذلك وأكده في حقيقة الأمر كبار الكتاب في العالم سواء كتاب الأدب العام أو كتاب أدب الأطفال ، وقد لمست ذلك ميدانياً في الواقع من خلال المتابعة والتجارب الشخصية في لقاءاتي العديدة على مر السنوات مع كبار الأدباء والكتاب العرب ، مثلما حصل ذلك معي في لقاء خاص مع الروائي العربي الكبير عبدالرحمن منيف جرى في بغداد عام 1982 عبر لي فيه صراحة عن عجزه في الكتابة للأطفال وفشل محاولات متكررة له لم ينجح فيها بالكتابة للأطفال وتيقن تماماً بعدها بصعوبة الكتابة للأطفال ، وقد ذكرت هذا الأمر وما جرى فيه في شهادة مهمة لي كتبتها ونشرت في أكثر من صحيفة واستقر بها الحال منشورة في أكثر من كتاب لي بعنوان ( أنا وعبدالرحمن منيف وأدب الأطفال ) ، مثلما مررت على قضية الكتابة للأطفال وصعوباتها في أكثر من دراسة لي كان من أبرزها دراستي الواسعة التي نشرت في كتاب مهم أتعرض فيه لفنون الكتابة للأطفال وما يجب أن تكون عليه وما تتطلبه من معايير نقدية ، صدر الكتاب هذا بطبعته الأولى عام 2013 تحت عنوان ( أدب الأطفال في المعايير النقدية : دراسة في الأسس والقواعد الفنية والنقدية لفن الكتابة للأطفال ) عن إدارة مراكز الأطفال في المجلس الأعلى لشؤون الأسرة في حكومة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة وهو معد الآن للإصدار بطبعة جديدة سيصدر قريباً ، وفي هذا الكتاب حاولت التنظير لقضايا النقد الخاص بأدب الأطفال ووضع وإيجاد معايير فنية وعلمية وموضوعية واضحة لقضايا النقد الخاص بأدب الأطفال لفقدان أدب الطفل العربي لمثل هذا النقد ، مثلما أنظر في هذا الكتاب وأعمل على توضيح المعايير والأسس الصحيحة لفن الكتابة للأطفال معتمداً في ذلك على الدراسة العلمية وتوظيف الاجتهاد الفكري الشخصي من خلال تجربتنا الطويلة في هذا المجال وكذلك مستشهداً بعشرات الشواهد والتجارب الإبداعية والموضوعية والعلمية لعشرات الكتاب والأدباء والمفكرين المتخصصين في العالم ، وقد جاء هذا الكتاب ليكون مرجعاً مهماً في هذا المجال ، الذي خاض فيه النقاش والجدل والتحليل طويلا ومازال يجري ويدور فيه ، مبيّناً بذلك حقيقة الصعوبة في أدب الأطفال ، والتي تأتي من متطلبات هذا الأدب ومعاييره الخاصة ومنها مسألة السهولة التي تشكل أبرز ما يصعب ويشكل على عشرات الكتاب والتي تدعوهم إلى الوقوف بحيرة واستغراب أمام الكتابة للأطفال ، مع عجزهم عن فهم لغة الأطفال وآلية الارتقاء بمستوى الطفل وليس النزول إلى هذا المستوى كما يذهب البعض ذهاباً خاطئاً في قوله وانطباعه عن أدب الأطفال .
من خلال مسيرتك الطويلة والحافلة في العطاء والإبداع في مجال تخصصك البارز في أدب ومسرح وثقافة الأطفال ، وقد عايشت عقليات وأجيال متنوعة في كل عقد حملت في مجملها العديد من التغيرات ، ترى كيف استطعت التأقلم مع هذه التغيرات وتقديم أدب وفكر تنظيري يستطيع معايشة كل ذلك بكل تجاوب وانسجام ؟.
يأتي هذا من خلال القراءة المتواصلة لكل ما هو نابض بالعلم والمعرفة لفهم الطفل واكتشاف خفاياه وأسراره ومتغيراته النفسية والانفعالية والعقلية والسلوكية والثقافية وغيرها ، والتي يتطلب الوقوف عندها جميعاً وتأملها ودراستها من أجل الوصول بقدرات الكتابة للطفولة ومنها إلى الفهم الصحيح والتعامل الواجب والمؤثر في رحابها ، ولأنني كنت وما أزال أواصل التنقيب والبحث والاستقراء والدراسة في عوالم الطفولة فإنني بذلك مازالت أسعى للوصول أكثر وأكثر إلى الفهم الأعمق من أجل العطاء الأكثر والأعمق لها ، من خلال ما أقوم به على أكثر من اتجاه وأكثر من وظيفة في الوقت ذاته ، فمثلما أنا في هذا الوقت أكتب وأقوم بالإبداع الكتابي وأقدمه ككاتب وأديب وشاعر يكتب القصة والقصيدة والنشيد والحكاية الشعرية والحكاية النثرية والمسرحية الشعرية والنثرية ، ويكتب القصة والرواية للفتيان اليافعين أيضاً يكتب بموازاة ذلك كله الدراسات والأبحاث والقراءات الفكرية والنقدية المتخصصة بوصفي بذلك ناقدا ومفكراً وباحثاً ودارساً متخصصاً بعوالم أدب الأطفال وثقافتهم وتكون لهذا الأدب وهذه الثقافة أسس وتطلعات مرجعية ومنهجية واضحة في عموم الوطن العربي .
حدثنا قليلاً لو أمكن عن كتابك الذي صدر قبل أيام تحت عنوان ” الطفل والقراءة ” ، وما هي أبرز الأفكار التي يجب معرفتها لتنشئة طفل وجيل قارئ ؟
يأتي هذا الكتاب ( الطفل والقراءة ) البالغ الأهمية ليكون بمثابة المنهج العلمي والدليل الواضح أمام المؤسسات المعنية بالطفل وتنشئته وتربيته وإعداده بدءاً من المؤسسة الأسرية والمتمثلة بالأب والأم ، ومروراً بالمؤسسة التربوية التي نعني بها المدرسة ومن يمثلها في وظيفة التربية والتعليم لتنشئة الطفل وإغناء عقله ومخيلته وكافة حواسه بما يجب من الإغناء خصوصاً الإغناء القرائي مفتاح الغنى الفكري والعقلي والمعرفي والاجتماعي والثقافي للطفل من خلال ما يتاح له وأمامه من الكتاب وثراء ما فيه من كنوز ، حيث يأتي كتابي هذا بعنوانه الرئيس : ( الطفل والقراءة ) ، وبعنوانه الفرعي الآخر : ( أفكار علمية وعملية لخلق طفل قارئ ) ، ليكون الدليل الصحيح والهادي أمام الجميع ، وليعينهم على مساعيهم وجهودهم لتنمية قدرات الطفل وتطوير مهاراته القرائية ومعالجة ما يواجه قدراته ومهاراته من مشكلات وتحديات تحول دون النمو والتطور في القراءة وغيرها ، وكذلك يأتي كتابي هذا ليوضح مقدار أهمية القراءة والحاجة الضرورية والماسة لها للطفل وللجميع ، ومدى خطورة تناسي القراءة وأهميتها في حياة الطفل ، وغير ذلك مما يجب معرفته وتعلمه من فنون القراءة ومعاييرها في الاختيار السليم والمناسب للطفل في مرحلته العمرية.
إضافة أخيرة. أخيرا الشكر والتقدير لكم وللصحيفة العزيزة على هذا الحوار الجميل والممتع والثري