الرابش

الرابش

بقلم :: سالم الهمالي

في الطريق الى المدينة، بالتحديد على ناحية اليمين وقبل ان تصلها بخمسة عشر كيلومتر رقعة واسعة من الارض تكّوم فوقها رقم كبير من السيارات المفطسة، يزداد عددها كلما يصادف مروري على تلك الطريق. سنوات مرت على هذا الحال، ينهض جبل صغير، افطس كخشم الانسان الذي انخفضت قصبته وانفرشت على الوجه .. أصطلح الناس على تسمية ذلك المكان بِ ( الرابش).
منظر مزعج ومفزع في ذات الوقت، اذ ان وراء كل سيارة او ما تبقى منها قصة حزينة، واحد، اثنين، ثلاثة، او أسر كاملة قضت .. مزعج، لان التمعن فيه ينبئك بحال اولائك الذين كانوا ركّاب، ومفزع ان ترى ذلك الجبل يتصاعد بسرعة نحو السماء، كأنه ينافس الأرواح التي صعدت اليها.
الربّاش او ( سي الزوفري) بملابسه الرثة، سروال خبخابي وثوب طويل بأكمام متهدلة وفرملة زرقاء تورمت جيوبها عليها بقع زيت سوداء، علامته المميزة في ( الرابش)، يجلس والى جانبه كانون عليه براد الشاهي على ركّابه من بقايا صاصيل عليها مندار ممزق الغطاء، تظهر في ركنه اسفنجته الصفراء المتهتكة. عندما تَراه، تخاله نبّاش القبور او هكذا هي حرفته مع هذه السيارات المعطوبة. في العادة، لا يأتي بك الى ( سي الزوفري) إلا اليوم العطيب، فهو يعرف انه آخر الطريق، وآخر العلاج الكي !!
كم من سيارة كان ثمنها بعشرات الآلاف، ينظر لها الزوفري يمين شمال فوق تحت، ثم بكل برود ينطق كلامه النهائي: ما فيها ما تلم وإلا ينفع … خوذ فيها ٤٠٠ دينار
يدرك انه لا احد غيره سيشتري، ولا فائدة من احتفاظك بحديد مّفطس … تقبض المبلغ على مضض وتذهب تلعق حسرتك..
الايام علمته، ان من يمشي خطوة للأمام والاخرى للخلف يريد ان يبيع، ومن يأتي اليه لاهتا فهو الباحث عن قطعة غيار لسيارته، لم يجدها في أي مكان آخر، فيباغته بكلمته المعهودة: ان شاء ربي يسترنا معاك ونلقى حاجتك … يا ودي ما نظن .. وين تلقاه هالطرف، حتى في الدار ما فيه ؟! .. ما ان تُأكد له صحة كلامه وأنك مررت على الدار ولم تجد حاجتك، حتى يُعد عدته ويسن سكينه، فأنت مستعد للذبح !!
يأمر احد عماله الافارقه الربّاشه، ومن كل هذه الأكوام يعرف بدقة في اي ركن يقبع ذلك المفقود او قطعة الغيار … يمد لك حاجتك … هات خمسمئة.
المفاجأة كانت هذه المرة: كثرة الكُناسة ( القمامة) الملقاة على جانبي الطريق امر مزعج ومفزع في ذات الوقت، على طول الطريق من داخل المدينة وحتى ( الرابش) لا تميز الاكياس من البراميل او تلك الفضلات التي تعبث بها القطط والكلاب وكل خشاش الارض. منظر مزعج للعين ومفزع لما يترتب عليه من أضرار بالبيئة وانتشار الامراض. لكن المفاجأة الأكبر هي عدم وجود ( الرابش)، أوقفت السيارة لأتأكد .. مرافقي لاحظ الذهول على وجهي، سألني: لا بأس عليك ؟!
انظر اليه و الى المكان الواسع وأسال: أين ( الرابش) ؟!
اجاب مرافقي:
سي ( الزوفري) أنجب اولاد كُثر، وَسّعوا نشاطهم فاشتروا ” فطِّيس”، وبدأوا يربشون في كل شيء مصانع، شبكات ومحطات كهرباء، مستشفيات، معسكرات … كل ما تطاله أيديهم، وطوروا بزنسهم الى تصدير الخردة عبر الموانئ الليبية، فانتقل كل ( الرابش) الذي كنت تعرفه الى مصانع في الخارج، وهم الآن يعملون في طول البلاد وعرضها .. اصبحت رابش …
سألته: وأين أجد ( سي الزوفري)
– سي الزوفري كّبر واصبح الان ( الحاج الزوفري) .. ما عاد يقدر الخدمة الثقيلة، أولاده قائمين بالواجب وزيادة … اما هو تلقاه مقمعز على ركّابه الجامع يبربش في ( الآي فون) ويتابع في العمل عن بعد …

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :