الطرقات المتهالكة في الجنوب الليبي، مصائد موت تبتلع الأرواح

الطرقات المتهالكة في الجنوب الليبي، مصائد موت تبتلع الأرواح

تحقيق : سلمى مسعود

  تواجه مدن وبلدات الجنوب الليبي مأساة يومية على طرقاتها الصحراوية المتهالكة، التي تحوّلت إلى مصائد موت تحصد أرواح المسافرين بلا هوادة. لا يكاد يمر يوم إلا ويُعلن عن حادث مروري مروّع في مكان ما، وتؤكد إحصاءات رسمية أن ليبيا تتصدر دول العالم في وفيات حوادث الطرق بنسبة حوالي 73.4 وفاة لكل 100 ألف من السكان. بل إنّ قتلى حوادث السير سنويًا يفوقون ضحايا الحروب والنزاعات المسلحة التي عانت منها البلاد. وعلى طرق الجنوب، تتجسد الكارثة في أسوأ صورها، حيث باتت الحفر والتشققات والفجوات العميقة مشاهد معتادة، وأصبحت الرحلة على هذه الطرق رحلة نحو المجهول قد لا يعود منها سالكوها أبدًا.

مأساة على الإسفلت: حكايات موت من طرق الجنوب.

في ظهر يوم قائظ على طريق سبها–أوباري، كان المواطن مصباح بشير التومي يقود سيارته عائدًا إلى أسرته. لم يكن يعلم أن الحفرة العميقة التي تخفيها الرمال أمامه ستكون آخر ما يراه. هوت السيارة فجأة في حفرة قاتلة، وانقلبت عدة مرات، ليلقى مصباح مصرعه في الحال في حادث سير أليم هزّ مجتمع براك الشاطئ مسقط رأسه. تحولت تلك الحفرة المهملة إلى فخ قاتل ابتلع هذا الأب الشاب، مخلفًا وراءه زوجةً وأطفالًا في صدمة وحزن شديد.

وفي حادث مأساوي آخر وقع عند مفترق الرحبة على طريق سوكنة – الجفرة، احترقت سيارة تقل ثلاثة شباب من مدينة سبها حتى تفحمت. وقع التصادم ليلاً فاشتعلت النيران بالمركبة ولم يتمكن أحد من إنقاذ الركاب. مفترق الرحبة بات اسمًا مرادفًا للفاجعة في ذاكرة أهالي سبها، إذ فقدت المدينة في تلك الليلة ثلاثة من خيرة أبنائها حرقًا وهم في مقتبل العمر. يروي شهود عيان كيف علت صرخات الاستغاثة بلا جدوى وسط ألسنة اللهب، وكيف وقف المارة عاجزين أمام مشهد السيارة التي تحولت إلى كتلة نار تلتهم أجساد الركاب. كانت ثوانٍ معدودة كفيلة بأن تُنهي أحلام هؤلاء الشباب إلى الأبد، لتضيف أسماءهم إلى قائمة طويلة من ضحايا طرق الجنوب.

أما في بلدة أوباري، فقد تجسدت قسوة القدر على الإسفلت في قصة أم ثكلى فقدت ثلاثة من أبنائها دفعة واحدة. ففي حادث سير مروّع قرب منطقة الشويرف على طريق الجنوب، اصطدمت سيارة تقل أربعة شباب واحترقت بالكامل، ليلقى جميع ركابها حتفهم ومن بينهم ثلاثة أشقاء من عائلة الأنصاري ينحدرون من أوباري. تلقت الأم المفجوعة اتصالًا في تلك الليلة يُعلمها بأن فلذات كبدها الثلاثة رحلوا معًا في حادث واحد. هذه السيدة التي ودّعت أبناءها الثلاثة إلى مثواهم الأخير، لم تفارق صورهم ذهنها وهم يغادرون البيت قبل الحادث بساعات، مليئين بالحياة والأمل. صارت حوادث الطرق في نظر أهالي الجنوب قدرًا أسوأ من الحروب، فالحرب على الأقل يسبقها إنذار، أما الطريق فقد تغدر بالمسافر في أية لحظة ودون سابق إنذار.

تصريح خاص: المهندس عبد الله حسن عبدالجليل  يوضح واقع الطرق في الجنوب.

 في تصريح خاص بهذا التحقيق، استعرض المهندس عبد الله حسن الشريدي، مدير مصلحة الطرق والجسور في سبها، صورة شاملة لواقع الطرق في الجنوب الليبي، والمشاريع القائمة، والتحديات الطبيعية، إضافة إلى الإشكالات الإدارية والسياسية التي تعيق الحلول، مؤكدًا أن الجنوب يدفع ثمن الإهمال واللامبالاة منذ عقود.

مشاريع صيانة وتأهيل الطرق في الجنوب: وعود متعثرة وتنفيذ بطيء.

قال الشريدي: “بالنسبة للطريق الرابط بين سبها وأوباري، كان العقد في البداية مع شركة تركية، لكنه أُلغي وتم سحبه منها، وسُلّم إلى شركة ليبية محلية هي شركة حياة الدرجة. ومن المنتظر أن تبدأ الشركة في استلام الموقع وبدء تنفيذ أعمالها على طول 200 كيلومتر من الطريق قبل نهاية شهر يونيو للعام 2025الجاري

وأضاف: “أما الطريق الرابط بين أوباري وغات، فقد أُسند إلى شركة مصرية. قامت الشركة بتقسيم المساحات إلى مربعات عمل، وبدأت أعمال التنفيذ منذ أكثر من ستة أشهر.”

وتابع: “بالنسبة لطريق مرزق – القطرون، فقد شهد في السابق أعمالاً متقطعة من بعض الشركات المحلية منذ عام 2008، لكن تلك الأعمال توقفت. كانت شركة أفريقيا للهندسة تشرف على تلك الأعمال، لكنها أنهت مهامها. حاليًا تجري دراسة جديدة لإعادة تقييم الطريق ووضع خطة لتجهيزها للتنفيذ.”

وأشار إلى أن: “طريق سوكنة – هون ليس ضمن اختصاص مصلحتنا، إذ ينحصر نطاق عملنا في طرق سبها والجفرة. ونسعى حاليًا للتعاقد مع شركة أجنبية كبرى تتوفر لديها الإمكانيات اللازمة لإنجاز هذه المشاريع الكبرى، والصمود حتى استكمالها.”

التحديات البيئية: مناخ قاسٍ وظروف طبيعية مدمرة.

أوضح الشريدي أن المنطقة الجنوبية تتعرض لمناخ شديد القسوة يؤثر مباشرة على حالة الطرق: “درجات الحرارة في الصيف تصل إلى 50 درجة مئوية، وفي الشتاء تنخفض أحيانًا إلى ما دون الصفر. هذا الفارق الكبير في درجات الحرارة يُضعف الطبقات الإسفلتية والخرسانية مع مرور الوقت.”

وتابع: “خلال الفترة الأخيرة، شهدنا سيولًا وأمطارًا شديدة وغير متوقعة اجتاحت مناطق مثل غات، منتصف حسينة، إدري، برقن، الزهراء، والمنصورة، مما تسبب في انجرافات كبيرة للطرق وتدمير أجزاء واسعة من البنية التحتية.”

فزعة أهلية وجهود استثنائية لمواجهة الكوارث.

أكد الشريدي أن الوضع المتدهور استدعى استجابة عاجلة من مختلف المدن الليبية: “عقب السيول والانجرافات الأخيرة، هبّت فزعة كبيرة من جميع مدن ليبيا إلى غات لتقديم المساعدات، ورفع المعنويات، وفتح المسارات، والعمل على إصلاح ما يمكن إصلاحه. بقينا في غات خمسة أيام متواصلة نعمل لفتح الطرق، بدعم ومساندة من المواطنين.”

تهميش الجنوب وغياب العدالة في القرارات.

قال الشريدي: “للأسف، الجنوب ظل مهمشًا من جميع الحكومات المتعاقبة. ليس هناك ميزانية مستقلة مخصصة للمنطقة الجنوبية، بل تُعتبر جزءًا من ميزانية الدولة العامة. كما أن معظم المسؤولين الذين يتخذون القرار، 99% منهم، ليسوا من أبناء الجنوب، بل من المناطق الغربية أو الشرقية أو الوسطى. وهذا ينعكس سلبًا على الاهتمام الحقيقي بمعاناة الجنوب. نأمل أن تتم مراجعة هذا الوضع، وإعطاء الجنوب حقه من الاهتمام والعدالة.”

ضعف الوعي المروري: عامل قاتل إضافي في طرق الجنوب.

أبرز الشريدي أيضًا خطورة غياب ثقافة القيادة الصحيحة كسبب إضافي وراء الحوادث المتكررة، إلى جانب تهالك الطرق والبنية التحتية. قال: “من أهم أسباب كثرة الحوادث في ليبيا، وخاصة في الجنوب، عدم وعي المواطن. كثير من السائقين لا يذهبون إلى مدارس تعليم القيادة، ولا يعرفون القوانين المرورية، ولا يلتزمون بإشارات الطريق ولا بالمطبات ولا بأي معايير للسلامة. السائق عندنا قد يتعلم قيادة السيارة وينطلق على الطرق دون أي علم أو التزام بقواعد السير.”

وتابع: “في دول العالم المتقدم، هناك رقابة مشددة. تُوضع حساسات وكاميرات داخل السيارات، وتراقب ساعات قيادة السائقين، ومن يتجاوز المسموح به يعاقب. أما عندنا، فالسائق يقود شاحنته أو سيارته بالساعات الطويلة بلا ضابط أو رقيب. نحن نفتقر لنظام مراقبة فعّال، وكل شيء يتم بطريقة عشوائية. هذا يضاعف من خطورة الطرق.”

وختم تصريحه مؤكدًا: “نحتاج إلى حملات وطنية للتوعية، وتطبيق القوانين بصرامة، ومحاسبة المخالفين، لأن المسألة ليست فقط في الطريق بل في ثقافة استخدام الطريق.”

المواطن هو السبب الأول في الحوادث والجنوب يدفع الثمن الأكبر.

في مقابلة تلفزيونية، أكد العميد ناصر اللافي، رئيس مكتب شؤون المرور والتراخيص المرورية، أن مشكلة الحوادث المرورية في ليبيا تعود في المقام الأول إلى العامل البشري، مشيرًا إلى أن الإحصائيات الرسمية تثبت هذه الحقيقة المؤلمة، وأن الجنوب الليبي هو من أكثر المناطق تضررًا نتيجة هذه العوامل مجتمعة.

المواطن السبب الأول في حوادث الطرق.

قال اللافي: “الحوادث في بلادنا سببها بالدرجة الأولى المواطن. هذا ليس كلامًا نظريًا بل حقيقة تؤكدها الأرقام والإحصائيات الرسمية. المواطن هو السبب الرئيس، يليه حالة المركبة، ثم حالة الطريق. المواطن هو من لا يلتزم بالقوانين، ولا يحترم آداب وقواعد المرور على الطرق العامة.”

ثلاثية الخطر: الطريق المتهالك والمواطن المتهور والمركبة المتهالكة.

وأضاف: “نحن أمام ثلاثية قاتلة تتكرر في كل حادث: طريق متهالكة منتهية الصلاحية، مواطن غير ملتزم بقواعد السير وأحيانًا يعاني من عدم الاستقرار النفسي، ومركبة معدومة فنيًا وغير صالحة للسير. حتى في حال وجود طريق جيدة ، التزام السائق هو الأساس لتفادي الكارثة.”

وأشار اللافي إلى أن الكثير من المركبات المستخدمة على الطرقات تعاني من أعطال فنية خطيرة، لكنها تسير على الطرق دون رقابة، مما يضاعف من خطورة الحوادث، خاصة عند القيادة بسرعات مفرطة أو بطريقة عشوائية.

الجنوب الليبي يدفع الثمن الأكبر.

وأوضح اللافي أن هذه العوامل الثلاثة تتفاقم آثارها في الجنوب الليبي بشكل خاص، حيث الشبكة الطرقية المتهالكة، قلة المراقبة المرورية، وانتشار المركبات غير المؤهلة للسير في بيئة قاسية. وقال: “الجنوب يدفع الثمن الأكبر لأن الطرق هناك تعاني من إهمال مزمن، والرقابة أقل، والوعي المروري بحاجة إلى تعزيز كبير.”

الحل يبدأ بالالتزام الفردي.

وختم اللافي تصريحه قائلاً: “الحل يبدأ من التزام المواطن نفسه. إذا لم يقرر السائق أن يحترم القانون ويطبق قواعد المرور، فلن تنفعنا الطرق الجيدة ولا المركبات السليمة. علينا أن نغرس ثقافة احترام الطريق والقانون في المجتمع كله.”

كارثة بالأرقام: طرق تحصد الأرواح أكثر من الحروب.

لغة الأرقام تكشف بوضوح فداحة النزيف المروري على طرق ليبيا عمومًا والجنوب خصوصًا. وفق إحصائية رسمية نشرتها وزارة الداخلية بحكومة الوحدة الوطنية، بلغت حصيلة الوفيات في حوادث المرور في عموم ليبيا خلال الفترة 2018–2022  ، 9245 حالة وفاة، إضافة إلى 11532 إصابة بليغة. وتضررت خلال تلك المدة نحو 39,618 مركبة، قُدّرت قيمة خسائرها بحوالي 218 مليون دينار ليبي. أما خلال النصف الأول فقط من عام 2023، فقد سُجّلت 1279 وفاة أخرى و3514 إصابة (منها 1828 خطيرة) نتيجة الحوادث، مما يعني وقوع حوادث قاتلة بشكل يومي في البلاد.

هذه الأرقام المفزعة جعلت ليبيا توصف بأنها من أخطر بلدان العالم في حوادث السير. فقد أكدت وزارة الصحة في حكومة الوحدة أن ليبيا تتصدر القائمة الدولية لوفيات حوادث الطرق بمعدل بلغ نحو 73.4 وفاة لكل 100 ألف حالة وفاة، وهي نسبة مرعبة تتجاوز بأضعاف المعدلات في الدول المستقرة. وتبعًا لذلك، تُظهر التقارير الدولية أن ضحايا حوادث المرور في ليبيا سنويًا يتفوق عددهم على قتلى المعارك والصراعات المسلحة.

فعلى سبيل المثال، شهد عام 2015 أعلى حصيلة وفيات مرورية بأكثر من 4,398 قتيل، وهو رقم يقترب من عدد القتلى إبان ثورة السابع عشر من فبرير عام 2011 خلال ثمانية أشهر من القتال.

أما في الجنوب الليبي، فلا تتوفر إحصاءات مفصلة حسب المنطقة، لكن مؤشر الخطورة أعلى نظرًا لتهالك البنية التحتية وبعد المستشفيات عن مواقع الحوادث. ويكفي للدلالة أن طريقًا واحدًا مثل سبها–أوباري يحصد العشرات من الأرواح سنويًا، إذ تُسجّل عليه حوادث مروعة بين الحين والآخر لأسباب متعددة في مقدمتها تهالك الطريق والسرعة. وكذلك طريق أوباري–غات الصحراوي الذي شهد مصرع عدة عائلات كاملة في حوادث انقلاب واصطدام خلال السنوات الماضية، حتى أصبحت أسماء بعض المنعطفات فيه مرتبطة بمآسٍ إنسانية لا تُنسى. ووفق متابعين، فإن الواقع أخطر من الأرقام، لأن كثيرًا من الحوادث في مناطق نائية لا يتم توثيقها رسميًا، وتُدفن أخبارها في المقابر مع ضحاياها. هذا النزيف المستمر جعل الليبيين يطلقون على حوادث السير وصف “القاتل الصامت” الذي يفتك بأرواح الأبرياء بعيدًا عن ضجيج الإعلام والاهتمام الحكومي.

نزيف الطرقات في ليبيا كارثة تفوق الأوبئة والحروب.

في تصريح خاص بهذا التحقيق، أكد الدكتور أحمد القاضي، رئيس الجمعية الليبية للسلامة المرورية، أن مشكلة حوادث الطرق في ليبيا بلغت مستوى الكارثة الوطنية، وهي ليست مجرد أزمة محلية، بل جزء من أزمة عالمية تتفاقم في ليبيا بشكل مخيف.

ليبيا تتصدر أسوأ المؤشرات العالمية في وفيات الطرق.

قال القاضي: بحسب آخر تقرير صادم صادر عن منظمة الصحة العالمية، والذي شمل 181 دولة، جاءت ليبيا ضمن أسوأ عشر دول عالميًا من حيث معدلات السلامة على الطرق. بلغ معدل الوفيات لدينا نحو 36 حالة وفاة لكل 100 ألف من السكان، بينما المتوسط العالمي 18 وفاة، وفي أفريقيا 24 وفاة. أما في الدول العربية، فلا توجد دولة واحدة بلغت هذا المعدل الكارثي. للأسف، ليبيا في صدارة هذا الترتيب السلبي، مما يؤكد حجم المأساة.

ضحايا الطرق أكثر من ضحايا كورونا.

أوضح القاضي حجم الكارثة قائلاً: في عام 2020، تسبب وباء كورونا عالميًا في وفاة نحو 1.8 مليون شخص. في المقابل، قتلت الحوادث المرورية خلال نفس العام أكثر من 1.3 مليون شخص عالميًا. في ليبيا، إذا نظرنا إلى عام 2022 فقط، نجد أن الحوادث قتلت حوالي 49 ألف شخص وفق بيانات إدارة المرور. الغالبية العظمى من هؤلاء الضحايا كانوا من الشباب، تحديدًا بين سن 17 و30 عامًا. نحن نفقد أعمدة المستقبل بهذه الحوادث.

وقارن القاضي ذلك بمثال حي: تخيلوا لو سقطت سبع طائرات ركاب كبيرة، كل طائرة تحمل 500 شخص، وقتل جميع ركابها. لقامت الدنيا ولم تقعد. وهذا العدد نفسه تقريبًا من القتلى يحدث سنويًا على الطرق، دون أن يحرك ذلك ساكنًا.

غياب تطبيق القوانين، الحلقة المفقودة في منظومة السلامة.

أشار القاضي إلى أن الكارثة ليست فقط بسبب تهالك البنية التحتية، بل أيضًا بسبب غياب تطبيق القوانين وضعف الرقابة قائلاً: لا توجد رقابة فعالة على التزام السائقين بربط حزام الأمان، أو الالتزام بالسرعات المقررة، أو حتى فحص الطرق بانتظام. لا توجد برامج جادة لحماية الأطفال على الطرق أو التوعية بمخاطر التهور. كل ذلك يزيد من حجم المأساة.

جهود الجمعية: التوعية وحدها لا تكفي.

قال القاضي: نحن في الجمعية الليبية للسلامة المرورية نحاول جاهدين المساهمة في التوعية. أقمنا ثماني ورش عمل في الجامعات والمدارس، منها جامعة طرابلس، كلية الهندسة بمرزق، الأكاديمية العليا بجنزور، إضافة إلى استهداف أكثر من 20 مدرسة ثانوية وعدد من المرشدات الاجتماعيات. لكن الحقيقة أن جهودنا محدودة أمام حجم الكارثة.

دعوة لتكاثف الجهود الوطنية.

اختتم القاضي تصريحه بدعوة صريحة لكل الجهات للعمل المشترك قائلاً: لا بد أن تتكاتف كل الجهود. وزارة المواصلات، مصلحة الطرق والجسور، وزارة الداخلية، الإعلام، المجتمع المدني. نحن أمام ملف وطني خطير يهدد أجيال المستقبل. المسألة لم تعد تحتمل التأجيل أو التسويف.

الجهات المعنية: مسؤولية غائبة ومحاسبة مطلوبة.

يتساءل أهالي الجنوب: من يتحمل مسؤولية هذه الكارثة المستمرة؟ والإجابة في الواقع متعددة الأوجه. فهناك وزارة المواصلات المعنية بتخطيط وتنفيذ مشاريع الطرق، والتي يفترض أنها الجهة الأولى المسؤولة عن تحديث الشبكة المتهالكة في الجنوب. ورغم إطلاق الوزارة خططًا تحت مسمى عودة الحياة وغيرها، إلا أن الواقع يكشف تعثر تلك الخطط وعدم متابعتها بجدية. ويأتي تحت مظلة المواصلات جهاز تنفيذ مشروعات المواصلات ومصلحة الطرق والجسور، وهي مؤسسات كان عليها الدفع قدمًا بمشاريع الصيانة، لكنها اصطدمت إما بقصور إداري أو فساد مالي أو لامبالاة سلطوية تجاه أولويات الجنوب.

ثم هناك هيئة السلامة المرورية (إن وجدت فعليًا على الأرض)، إذ يقع على عاتق أجهزة المرور تنظيم حركة السير ووضع لوائح تحد من السرعة القاتلة المنتشرة على الطرق الصحراوية. إن انفلات السرعة وغياب الدوريات المرورية الفعالة على الطرق السريعة في الجنوب فاقم عدد الحوادث، وكان بالإمكان إنقاذ أرواح عديدة لو وُضعت كاميرات مراقبة سرعة أو تكثّفت حملات التوعية والضبط المروري. لكن للأسف، تعاني إدارات المرور في المنطقة الجنوبية من ضعف الإمكانات وقلة العناصر، وأحيانًا من الانخراط في مشاكل أمنية تعيق دورها الأساسي.

أما ديوان المحاسبة، الجهاز الرقابي الأعلى في الدولة، فعليه دور حيوي في التدقيق والمساءلة.

 إذ ينبغي أن يفتش ويدقق في العقود الضخمة التي أُبرمت لصيانة طرق الجنوب: أين صرفت أموالها؟ ولماذا لم تنجز في مواعيدها؟ وهل هناك تقصير أو تلاعب من قبل الشركات أو الجهات المشرفة؟

لقد التقى وفد من وجهاء الجنوب برئيس ديوان المحاسبة خالد شكشك في 2021 للمطالبة بحلحلة مشاكل المشاريع المتعثرة، وتم الاتفاق حينها على تخصيص مليار دينار وتقديم التسهيلات اللازمة للشركات. لكن يبدو أن المتابعة اللاحقة لم تكن بمستوى الخطط المعلنة. من حق أهالي الجنوب أن يعرفوا أين اختفت نتائج تلك الاجتماعات والقرارات، ولماذا بقيت طرقهم على حالها رغم صرف الملايين المقررة.

ولا يُعفى الجهاز القضائي بدوره من المسؤولية. فالقانون الليبي يجرّم الإهمال الجسيم الذي يفضي إلى خسائر في الأرواح، ويمكن للأجهزة القضائية فتح تحقيقات في شبهات الفساد أو التقصير المتعمد المتعلق بمشاريع البنية التحتية. لماذا لا نرى تحقيقًا في مشروع طريق لم يُنجز وأودى تردي حالته بحياة عشرات الأشخاص؟ إن سكوت الجهات القضائية عن محاسبة المقصرين شجّع على استمرار حالة اللامبالاة. وفي الدول المتقدمة تُرفع قضايا جنائية ومدنية ضد مسؤولي الأشغال العامة إذا ثبت أن إهمالهم تسبب في حوادث مميتة. أما في ليبيا، فلم نسمع يومًا عن مسؤول تمت محاسبته على طريق حصد الأرواح.

وأخيرًا، لا بد من الإشارة إلى دور البلديات المحلية التي هي حكومة مصغرة في كل منطقة. عميدو البلديات ومجالسها تقع عليهم مسؤولية المطالبة بحقوق مناطقهم والسعي لصيانة الطرق الداخلية والرابطة، ومتابعة المقاولين إن وُجدوا. بعض البلديات في الجنوب حاولت التحرك، مثل حملة تطوعية جرت في بلدية الجفرة لترميم طريق بين زلة وودان للحد من الحوادث. لكن هذه الجهود تبقى محدودة التأثير في غياب دعم مركزي. المطلوب من البلديات أن تكون صوت المجتمع المحلي وأن تستخدم كل أدوات الضغط السلمي لتسليط الضوء على معاناة السكان، سواء عبر الإعلام أو مخاطبة الحكومة المركزية أو التعاون مع ديوان المحاسبة. وإذا قصّرت البلديات نفسها ورضيت بالأمر الواقع، فإنها تشارك ضمنيًا في المسؤولية عن استمرار مأساة الطرق.

خاتمة: من المسؤولية إلى الحلول، ودروس من تجارب الجوار.

إن الكارثة اليومية على طرقات الجنوب الليبي ليست قدرًا محتومًا، بل هي نتيجة تراكمات من الإهمال وغياب الرؤية والتخطيط والمحاسبة. لا يكفي أن نشخص المشكلة أو نحصي ضحاياها، بل لا بد من تحرك عملي وطني جاد ينقذ الأرواح ويحمي مستقبل المنطقة.

من هنا، يوصي هذا التحقيق بعدد من الإجراءات العاجلة والعملية:

من هنا، يوصي هذا التحقيق بعدد من الإجراءات العاجلة والعملية:

•        تخصيص ميزانية طوارئ لصيانة الطرق الأكثر خطورة في الجنوب (مثل سبها–أوباري، أوباري–غات، مرزق–القطرون)، مع تنفيذ فوري لحلول إسعافية مثل تركيب إشارات تحذيرية وعواكس ضوئية عند النقاط السوداء.

•        تفعيل الرقابة المرورية على الطرق السريعة باستخدام كاميرات المراقبة والرادارات المحمولة لضبط السرعة، وتغليظ العقوبات على التجاوزات الخطرة.

•        إطلاق حملات وطنية للتوعية بثقافة القيادة الآمنة، بالتعاون بين وزارات الداخلية والتعليم والمجتمع المدني.

•        تشكيل لجنة وطنية مستقلة لمتابعة تنفيذ مشاريع صيانة الطرق في الجنوب، تضم ممثلين عن ديوان المحاسبة والبلديات والمجتمع المدني، لضمان الشفافية وسرعة الإنجاز.

ويستحق الجنوب الليبي الاستفادة من تجارب الدول المجاورة التي عانت من تحديات مشابهة. فقد أنجزت الجزائر برنامجًا خاصًا لصيانة وتأمين الطرق الصحراوية عبر إنشاء حواجز تثبيت الكثبان الرملية، واستحداث طرق موازية في بعض المقاطع للحد من الحوادث. أما تونس، فاستثمرت في مشاريع صيانة طرق المناطق الداخلية مع تعزيز الرقابة باستخدام كاميرات ذكية على الطرق السريعة. وفي مصر، جرى التوسع في إنشاء الطرق المزدوجة في المناطق الصحراوية لتقليل نسبة الحوادث. هذه التجارب تؤكد أن الإرادة السياسية، حين تتوفر، قادرة على تحويل طرق الموت إلى طرق آمنة تخدم التنمية بدل أن تحصد الأرواح.

إن طرق الجنوب الليبي ليست مجرد مسارات تربط المدن، بل هي شرايين حياة. والسكوت عن هذا النزيف المستمر يعني قبول استمرار المأساة. لقد آن الأوان لتحرك وطني عاجل وشامل ينصف الجنوب ويحمي أرواح أبنائه.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :