- سلمى مسعود.
لم أتعرف إلى ما يحدث في المجتمع الليبي من التقارير أو الأخبار أو المقالات، بل من الواقع اليومي، من واقعٍ نشأتُ فيه؛ من الصمت الذي يغطي الخوف، ومن البيوت التي تُخفي العنف كما تُخفي الأسرار. لم يعد العنف حدثًا معزولًا، بل أصبح جزءًا من المشهد الاجتماعي، كأنه شيء مألوف يتكرر بلا دهشة. حين يقتل أب أطفاله انتقامًا من طليقته، أو يطعن ابنٌ أمه، أو تُدفن زوجة بيد زوجها، لا يبدو الأمر صاعقًا كما كان يجب أن يكون. أصبح القتل داخل الأسرة أحد أكثر مظاهر التفكك الاجتماعي قسوة، ومرآة صادقة لحجم الانهيار الذي يعيشه المجتمع الليبي بعد سنوات الحرب والانقسام.
الحرب التي ظنّ الليبيون أنهم تركوها خلفهم لم تنتهِ فعلاً، بل غيّرت شكلها. خرجت من ساحات القتال لتستوطن البيوت. خلفت جروحًا في النفوس أعمق من تلك التي خلّفها الرصاص، و ورثت أجيالًا تحمل عنفها كطريقة في الفهم والتعبير. لم تتوقف الحرب عند حدود السلاح، بل تسللت إلى العلاقات الإنسانية، إلى الأبوة والأمومة والزواج، فصار البيت ـ الذي يفترض أن يكون مساحة أمان ـ مكانًا للخطر والعدوان.
تُظهر تقارير منظمة العفو الدولية لعام 2024 واللجنة الدولية للقانون لعام 2025 أن ليبيا تشهد تصاعدًا واضحًا في العنف الأسري والعنف القائم على النوع الاجتماعي. وتوثّق هذه التقارير حالات متعددة لنساء قُتلن على أيدي أزواجهن، وأمهات اعتُدي عليهن من أبنائهن، وأطفال فقدوا حياتهم في نزاعات أسرية. الملاحظ في معظم هذه الجرائم أنها تمرّ دون محاسبة حقيقية، إذ لا يتضمن القانون الليبي نصوصًا تجرّم العنف الأسري بشكل صريح، بل يدرجه ضمن الاعتداءات العامة القابلة للتسوية الاجتماعية. ونتيجة لذلك، أصبحت الوساطة القبلية والعرف الاجتماعي طريقًا بديلاً عن العدالة، مما كرّس ثقافة الإفلات من العقاب.
تربط التقارير الدولية هذه الجرائم بسياقٍ اجتماعي وسياسي أعقد من مجرد “انحرافات فردية”. فسنوات الحرب الطويلة والانقسام المؤسسي وتراجع الوضع الاقتصادي أسهمت في تفكيك منظومة القيم داخل الأسرة الليبية. كثير من الدراسات النفسية المحلية، ومنها دراسة لمركز البحوث الاجتماعية في طرابلس عام 2023، تشير إلى أن واحدًا من كل خمسة شباب ليبيين تعرض لشكل من أشكال العنف المنزلي في طفولته، وأن هذه التجارب المبكرة تُعيد إنتاج دائرة العنف في المستقبل. هكذا يتحول الطفل الضحية إلى أبٍ غاضب، والأم المعنّفة إلى صامتة جديدة، والمجتمع كله إلى ضحية متكررة.
لا يمكن تجاهل أن انتشار السلاح، وضعف الأجهزة القضائية، وتراجع ثقة المواطنين بالمؤسسات، كلها عوامل جعلت من العنف خيارًا يوميًا في التعامل مع الخلافات. وحتى وسائل التواصل الاجتماعي، التي يفترض أن تكون منابر للتوعية، تحوّلت إلى منصات تُعرض فيها المآسي بوصفها مشاهد عابرة. صور النساء المقتولات وأخبار الأطفال الضحايا تُنشر ثم تُنسى بسرعة، دون أن تثير نقاشًا جادًا حول الأسباب والمسؤولية.
من منظور حقوق الإنسان، تمثل هذه الظاهرة انتهاكًا جوهريًا للحق في الحياة والأمان الأسري. فحين يعجز القانون عن حماية الفرد داخل بيته، فإنه يفقد جوهر وظيفته. ليبيا، رغم انضمامها إلى اتفاقية سيداو والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، لا تمتلك حتى اليوم تشريعًا وطنيًا خاصًا بمناهضة العنف الأسري. المنظمات الدولية مثل المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب (OMCT) حذّرت في تقاريرها الأخيرة من أن غياب الإطار القانوني والمؤسسات المتخصصة يجعل الضحايا أمام خيارين لا ثالث لهما: الصمت، أو المخاطرة بالحياة.
إن معالجة هذه الكارثة لا تبدأ من الشرطة أو القضاء، بل من إرادة سياسية ومجتمعية تعترف أولًا بوجود المشكلة، ثم تضع لها إطارًا تشريعيًا واضحًا يجرّم كل أشكال العنف داخل الأسرة. تحتاج ليبيا إلى مراكز حماية، وخدمات دعم نفسي، وبرامج توعية تربط بين التربية والعدالة، وإلى إعلامٍ لا يكتفي بعرض الجريمة بل يناقش جذورها. فالعنف الأسري ليس شأنًا خاصًا، بل قضية عامة تمس أمن المجتمع واستقراره.
ما يحدث اليوم في ليبيا ليس مجرد موجة جرائم عائلية، بل تحذير صارخ من تفكك القيم الأساسية التي تقوم عليها الحياة المشتركة. وحين يعتاد الناس على خبر مقتل أم أو طفل كما يعتادون على أخبار الطقس، فذلك يعني أن المجتمع فقد جزءًا من إنسانيته. الصمت أمام هذه الجرائم ليس حيادًا، بل تواطؤ. والعلاج لا يكون بالندب أو الوعظ، بل بالقانون، وبإعادة الاعتبار للعدالة والرحمة في آنٍ واحد. لأن الوطن الذي لا يحمي أضعف من فيه، يفتح الباب لأن يُقتل الجميع في النهاية، ببطء، وبصمت.














