- مالك المانع.
منذ ما يقارب ثمانية عقود، تأسست الأمم المتحدة تحت شعار حفظ السلم والأمن الدوليين، ومنح الشعوب أملاً بالخروج من دوائر الحرب والدمار. غير أنّ الواقع الذي نعاينه اليوم يكشف أن المنظمة الدولية تحوّلت في كثير من الساحات من لاعبٍ فاعل إلى شاهدٍ عاجز، بل وأحياناً إلى جزء من التعقيد بدل أن تكون جزءاً من الحل. ولعل تتبع سجل البعثات الأممية السياسية في العالم يكفي لطرح سؤال حقيقي و جوهري : هل هناك مصير أكثر بؤساً من أن نكون شهوداً على فشل البعثات الأممية في كل ساحة نزاع، رغم اختلاف الجغرافيا والفاعلين والأسباب؟
لنأخذ ليبيا نموذجاً حيّاً. فبعد أكثر من عشر سنوات على دخول البعثة الأممية إلى المشهد السياسي، لم ينجح أي مبعوث أممي في مساعدة الليبيين على توحيد المؤسسات، ولا في الدفع نحو انتخابات تنهي المرحلة الانتقالية، ولا في تحقيق مصالحة وطنية تُنهي الانقسام الاجتماعي والسياسي. بل إن البعثة اكتفت بإدارة الأزمة لا حلها، وأعطت الشرعية لطبقة سياسية عطلت كل الاستحقاقات ثم بقيت في مواقعها بلا تفويض شعبي.
وفي لبنان، لم تكن مهمة الأمم المتحدة أفضل حالاً. فبعثة “اليونيفيل” تقف منذ سنوات عند خطوط تماس باردة، فيما الانفجار السياسي والمالي والاقتصادي يهز الدولة في عمقها الداخلي.
[ لا إصلاح -لا مساءلة -لا خروج من شبح الدولة الفاشلة] في اليمن أيضاً، تحول المبعوث الأممي إلى مجرد وسيط لتبادل الرسائل بين أطراف الحرب، بينما بقي الشعب اليمني محاصراً بين المجاعة والمرض والانهيار، بلا أي تقدم فعلي نحو تسوية شاملة.
أما في العراق، فقد اكتفت بعثة الأمم المتحدة بصياغة تقارير دورية وتقديم نصائح أخلاقية في بلد تحكمه الميليشيات أكثر مما تحكمه الدولة، وترهنه التدخلات الخارجية أكثر مما تنقذه البيانات الدولية. ليس هناك مسار سياسي مستدام، ولا مصالحة وطنية نهائية، ولا معالجة لجذور الانقسام الطائفي الذي صنعه الاحتلال وعمّقته الطبقة السياسية.
و طالما أننا في هذا المقال نتناول موضوع فشل البعثات السياسية في بؤر التوتر فلا يمكننا أن نغفل السودان، البلد الذي يواجه منذ سنوات أزمات سياسية وأمنية متتالية. وما حدث مؤخراً في الفاشر من مجازر دموية بحق الإنسانية تبرز حجم الفشل الأممي في حماية المدنيين ومنع الانزلاق نحو الحرب الأهلية. البعثات الأممية في السودان، رغم وجودها منذ اتفاقيات السلام المتعاقبة، لم تتمكن من احتواء العنف، ولم تنجح في منع حدوث المجازر بفضل الانقسامات العسكرية والسياسية، مما يعكس بشكل صارخ عجز المنظومة الأممية في مواجهة الانهيار الشامل، وجعل المدنيين هم الضحايا الرئيسيون.
و أما إذا انتقلنا إلى أفريقيا ، فإننا سندرك أن المشهد ليس استثناءً ولا أقل قتامة . فهناك عشرات البعثات الأممية في مالي والكونغو وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى، لكنّ الدم لا يزال يجري، والانقلابات العسكرية تتصاعد، وموارد القارة تُنهب، والسكان يعيشون أسوأ أشكال النزوح البشري. فهل كانت الأمم المتحدة جزءاً من الحماية أم مجرد لافتة دولية توفّر غطاء شكلياً للفشل؟
ثم جاءت أوكرانيا لتكشف الوجه الأكثر تناقضاً في المؤسسة الأممية: حرب كبرى تهز القارة الأوروبية، تنتهك فيها المواثيق الدولية علناً، ورغم ذلك بقي مجلس الأمن معطلاً بفيتو واحد، وبقيت الأمم المتحدة عاجزة عن منع حرب تهدّد الأمن العالمي. إذا كانت المنظمة لا تستطيع فرض السلم عندما يشتعل العالم على حدودها، فكيف يمكنها أن تصنعه في طرابلس أو صنعاء أو جوبا أو الفاشر؟
إنّ جوهر المشكلة عزيزي القارئ ليس في الأشخاص الذين يتعاقبون على مناصب المبعوثين، بل في بنية المنظومة نفسها: في تفويض ناقص، في صلاحيات محدودة، في غياب أدوات ضغط ملزمة، وفي شبكة مصالح دولية تتحكّم بالملفّات أكثر مما تحلّها. لقد تحوّلت البعثات الأممية، في أغلب الحالات، إلى وسيط بلا قوة، ومراقب بلا تأثير، وغطاء سياسي لإدارة زمن الأزمة بدل إنهائها.
من هنا، فإنّ إعادة النظر في آلية عمل الأمم المتحدة لم تعد مطلباً نخبويّاً، بل ضرورة دولية تُفرض من وقائع الفشل المتكرّر. الإصلاح الحقيقي يبدأ من تجريد مجلس الأمن من احتكار القرار، وتعديل قواعد التفويض، وتمكين البعثات من أدوات تنفيذ لا تقتصر على البيانات والتقارير. لا يمكن لمنظمة تُمنع من التدخل ضد من يعرقل السلام، أن تكون صانعةً للسلام.
العالم لا يحتاج إلى أمم متحدة جديدة، بل إلى أمم متحرّرة من قيود المصالح الكبرى. ما لم تتحوّل المنظمة إلى مؤسسة تُحاسب قبل أن تُراقب، وتمنح الشعوب حقّ القيادة لا الحقّ في انتظار حلول مستوردة، فإنّ مسلسل الفشل الأممي سيظلّ يتكرّر، وستظلّ شعوب ليبيا ولبنان واليمن والعراق والسودان وأفريقيا وأوكرانيا تدفع ثمن عجز دولي يُجمّل نفسه بشعار السلام.
لقد آن الأوان أن نعترف: الأمم المتحدة لم تعد عاجزة فقط، بل باتت مهدَّدة بفقدان معناها. وإذا كانت المنظمة تريد استعادة ثقة الشعوب، فإنّ أول خطوة ليست إرسال مبعوث جديد، بل إرسال إرادة جديدة، حقيقية وقادرة على فرض السلام وليس مراقبته فحسب.














