وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين العبادة الفردية والعبادة الاجتماعية بإشارات لطيفة منها ما رواه أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا, قَالَ: هِيَ فِي النَّارِ، قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: هِيَ فِي الْجَنَّةِ. تأمل الفرق بين المرأتين؛ الأولى اعتنت بعبادتها الفردية وأهملت العبادة الاجتماعية في حق جيرانها، والأخرى أتت من العبادة الفردية ما في وسعها (ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها) ولم تهمل العبادة الاجتماعية في حق جيرانها، فكان البون بينهما شاسعا والفرق عظيما يكاد يكون جنة أو نارًا. أرأيتم أن الأمر جد خطير يحتاج إلى وقفة تأمل وتعديل المسار وأن الفهم السائد في أوساط المجتمع المسلم من تعظيم العبادة الفردية والإهمال في العبادة الاجتماعية هو المسيطر على أغلب المسلمين إلا من رحم الله!. فهل تأملت هذا الحديث أيها الحبيب وتبينت ما فيه من تعظيم للعبادة الاجتماعية وأنها هى العلاقة الظاهرة بينك وبين أخيك المسلم، أما العلاقة الباطنة بينك وبين الله فلا دخل لنا بها وكل نفس بما كسبت رهينة. فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: خير الناس كثير الصلاة وكثير الصيام وكثير الحج بل جعل المدار هنا على نفع العباد وتقديم الخير للمجتمع للمسلم، بل عقد مقارنة جعل الفضل فيها لصالح العبادة الاجتماعية وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (ولئن أمشي مع أخي المسلم في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في المسجد شهرًا). فكثرة الصلاة والصيام والحج بين العبد وربه إن شاء تقبل منه وإن شاء ردها عليه، وجعلها هباءً منثورًا ولكن الشأن هل هو فرد صالح في مجتمعه خادم لإخوانه ولأهل بلدته وللمسلمين عامة أم النظرة الأنانية تحوطه وتجعله لا يفهم معنى العبادة الاجتماعية؟! هذا الفهم لم يكن يعزب عن سلفنا الصالح البتة، فهذا عبد الله بن المبارك خرج مرة إلى الحج (نافلة) فاجتاز ببعض البلاد فمات طائر معهم فأمر بإلقائه على مزبلة هناك وسار أصحابه أمامه وتخلف هو وراءهم فلما مر بالمزبلة إذا جارية قد خرجت من دار قريبة منها فأخذت ذلك الطائر الميت ثم لفته ثم أسرعت به إلى الدار فجاء فسألها عن أمرها وأخذها الميتة فقالت: أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار وليس لنا قوت إلا ما يُلقى على هذه المزبلة وقد حلت لنا الميتة منذ أيام وكان أبونا له مال فظُلم وأُخذ ماله وقُتل فأمر ابن المبارك برد الأحمال وقال لوكيله: كم معك من النفقة؟ قال: ألف دينار فقال: عُدَّ منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي فهذا أفضل من حجنا في هذا العام ثم رجع. فما فعله عبد الله بن المبارك الزاهد العابد الولي أمير المؤمنين في الحديث هو عين الفهم السلفي للنصوص ومقاصد الشريعة حيث فضل العبادة الاجتماعية على العبادة الفردية. وقد أشرنا إلى هذا الموضوع بالذات كمثال، ولكن هناك فى مجتمعاتنا الإسلامية أمثلة أخرى مشابِهَة. وليعلم إخواننا أن إنفاق المال مرتبط بالمسؤولية، ومرتبط أيضًا بالأولويات، ولا يجوز لنا أن نقلب هرم الأولويات ونجعل من الضروريات هامشيات، ومن السُّنَنِ والنَّوافل ضروريَّات، وننسى أننا نعيش فى مجتمع له حقوق علينا لا يجوز لنا أن نتنصل منها. إن تقدم الأمة الإسلامية لن يتمَّ بالتركيز على العبادات الفردية فقط بل يجب الاهتمام بالجانب الاجتماعيِّ وإعمار الأرض ماديًّا ومعنويًّا، هذا الإعمار الذى أصبح اليوم فريضة من الفرائض التي لا تقل شأنًا عن فرائض الإسلام الأخرى من صلاة وصيام وحج.. إلخ، وهذا أمر ينبغي على المسلمين أن يضعوه فى موضعه الصحيح؛ حتى تتبدل أحوال الأمة الإسلامية إلى ما نرجوه لها من تقدم وازدهار، وهذا لا يتم بالأمنيات ولكن بالعمل المخلص النابع من اقتناع ثابت بمقاصد الشريعة الإسلامية: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد11]. فأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يأخذ بأيدينا إلى ما فيه خير البلاد والعباد، إنه على كل شيء قدير وهو نعم المولى ونعم النصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.