بقلم :: ابوبكر عبد الرحمن
لم تكن فكرة بناء سياج حول البيت بلا سقف، فناء ، أو مساحة للتهوية خارج حيز الغرف والأسقف، موجودة حسب هندسة إعمار وبناء تلك الحقبة، في الواحات والقرى، خلال الفترة الزمنية الطويلة مابين عام 1890-1990 المدينة القديمة في منطقة الجديد – سبها، مثال لذلك- كانت البيوت في ذلك الوقت عبارة عن مكعبات صغيرة من الطين والحجر، سقفها مغطى بزرب النخل و الطلح وقد كانت البيوت غالباً بلا نوافذ للتهوية والتنوير على شكل سلسلة من البيوت المتلاصقة مع بعضها ودون أن يكون هنالك مسرب أو حيز فراغ بينها يتيح المجال لمرور الهواء أو المارٌة عبره. على عكس سكان الصحراء البدو الذين كانوا ينصبون خيامهم في العراء قبل اﻻنتقال ومجاورة تلك الواحات والقرى التي اندمجت مؤخراً، وأصبحت مدنا كبيرة.
رفض البدو السكن في تلك “الزرايب” كما أسموها، والتي لاتصلح لإيواء إلاٌ مواشيهم ودوابهم ، الغنم، والماعز، وكلاب الحراسة والصيد، وكانوا يستخدمون زرب النخل والطلح لإنشاء الزرايب وحجز المواشي داخلها، بعد فترة قصيرة من استقرارهم، طوقوا بها حتى مراتع الإبل. وقد أنشؤوا تلك الفكرة ، فكرة بناء فناء في البيت، بدون سقف يعيق ضوء وحرارة الشمس، ولا جدران تمنع الرياح إليه، وانقسم بهذا إلى قسمين، قسم يضم الغرف والمسقوف، وقسم تحت عراء الطبيعة.
كان البدو معتادين على حياة الطبيعة في البر والتي تمنحهم أكبر قدر من الحريٌة التي تأقلموها، إلاٌ من شح آبار المياه، عندما غادروها لكثير من الأسباب كان الأخير من أهمها. وقد تعلم البدو عبر هجراتهم المتوالية من سكان الواحات والقرى، أهم حرفة يستطيع المرء العيش وكسب المال منها :الزراعة والفلاحة، وكذلك تعلم سكان الواحات والقرى مايمكنهم العيش بصبر لأطول وقت ممكن من البدو: التأقلم والتقشف.
انتصرت فكرة الفناء، أو السياج التي هندسها البدو في منطقة المنشية تحديداً، علي فكرة معكبات الزرايب لسكان المدينة القديمة، راجت تلك الفكرة في معظم أحياء ومناطق سبها حتى ابتلعتها بالكامل. وشيد الكثير بيوتهم على تلك الطريقة، حتى سكان المدينة القديمة أنفسهم.كانت تلك الفكرة البدوية توفر الراحة و المجال للحركة، والتخزين- سواء قالونات المياه أو المواد القابلة للاشتعال، بنزين، نافتة، غاز- داخل سياج أو فناء البيت وكانت له الأفضلية في أزمات انقطاء الكهرباء والمياه عن باقي بيوت المدينة.
تعاقدت شركات البناء الصينية و التركية عام 1960 لبناء أكثر من مئة وحدة سكنية ، كات قد شيدت بنايات حسب كل شركة وخططها وتصوراتها الإعمارية المؤلفة إما من ثلاثة طوابق كل طابق فيه تسع شقق “عمارات الكعب” كما يسمونها في منطقة الجديد و المهدية والثانوية، و أخرى بنفس عدد الطوابق ولكن بستة شقق، وإما طابقين كل طابق فيه شقتين وهي ذات مساحة أكبر مقارنة مع البناية ذات الثلاث طوابق، وكل شكل هندسي لكل شركات الإعمار اختلطت في كل منطقة من تلك المناطق، بحيث أن بناية الشركة الصينية تقابلها بناية للشركة التركية , بعد أكثر من ثمان وأربعين سنة، تهالكت تلك البنايات واختلطت مياه صرفها الصحي بالمياه الصالحة للاستعمال باﻵبار وصدئت كل أنابيب البنية التحتية لها. تعاقدت شركات بناء أخرى أجنبية، ولكن لم يتم اﻻنتهاء من بنايات بعضها، ولم يستكمل بناء البعض الآخر بعد الثورة عام 2011 ، مثل بنايات الشركة الهندية – التي تحولت إلى معتقلات للحرابة والاختطاف ومعسكرات للتدريب لحركات العدل والمساواة،والشركة الأندونيسية \ الجماهيرية الأخرى و التي أصبحت ملاذاً للقتلة والمجرمين وممتهني السطو والحرابة في شارع الأربعين، كل ذلك وقد تعددت التصورات الهندسية للبناء المعماري واختلفت أشكالها في كل منطقة وشارع داخل المدينة. ولكن مع كل هذا الكم من البنايات والأشكال ورغم كل تصورات الهندسة الإعمارية، كانت- حتى الآن- فكرة هندسة البدو لإنشاء السياج حول البيوت وترك مساحة للتهوية فيها، هي الفكرة المنتصرة والتي استمر شكلها البنائي على كل تلك الأفكار الفلاحية والأجنبية. وهي الفكرة الأكثر تطبيقاً ورفاهية ، والأفضل لبنائها في معظم مناطق وأحياء المدينة إلى يومنا هذا.