كتبت :نيفين الهوني
تونس /خاص
يقدم الفيلم التشادي( دية) ثمن الدم للمخرج أشيل رونايمو والذي يأتي ضمن أفلام المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة في أيام قرطاج السينمائية والذي كان عرضه الأول في مهرجان فيسباكو لعام 2025 في بوركينا فاسو وهو أحد أبرز المهرجانات السينمائية في القارة الأفريقية حيث نال الممثل فيرديناند مبايساني جائزة أفضل أداء رجالي عن دوره في الفيلم كما عرض العمل ضمن برنامج مهرجان تورينو السينمائي لعام 2025 في قسم سنتر بيس ما عزز حضوره في الساحة السينمائية الدولية ولفت الانتباه إلى التجربة السينمائية التشادية المعاصرة يقدم هذا الفيلم سردا دراميا ينطلق من حادثة قتل خطأ تتحول إلى مأزق أخلاقي واجتماعي معقد حيث يتسبب سائق مسيحي على الرغم من عدم التصريح في الفيلم بالديانة لكنه يظهر من خلال اسم السائق (داني ) وهو يعمل لدى منظمة إنسانية في مقتل طفل مسلم ويظهر أيضا من خلال اسمه ( سليمان ) وأسم أخيه (يونس) ووالدهما الذي يطالب بالدية ( بشير سلام ) عن غير قصد لتبدأ رحلة طويلة من الصراع مع المجتمع ومع منظومة العدالة غير الرسمية غير أن جوهر الإشكال الذي يطرحه العمل لا يكمن في المأساة ذاتها بقدر ما يتمركز حول طريقة تمثيله لمفهوم الدية إذ يعالجها الفيلم بوصفها ممارسة اجتماعية متخلفة ُتنتج العنف والابتزاز ويجب محاربتها وإلغائها وهو طرح يفتح أبواب كثيرة في المجتمع التشادي والإفريقي وخصوصا الإسلامي منه وعلى الرغم من أنه بالإضافة إلى ذلك يعالج أيضا جملة من القضايا المتداخلة من بينها الصراع بين العدالة التقليدية والعدالة الحديثة والانقسامات الثقافية والجغرافية داخل تشاد وتأثيرها على مصائر الأفراد و ثيمات الذنب والبحث عن الاعتراف والتكفير عن الخطأ والعلاقة المتوترة بين الفرد والمجتمع والأسرة وهي محاور تمنح الفيلم بعدا إنسانيا واضحا الا أنها في الوقت ذاته تعمل على تعزيز الطرح الإلغائي لمفهوم الدية كما يقدمه العمل.
الدية بين الشرع الإسلامي والعرض السينمائي
ومن منظور ثقافي أنثروبولوجي وفقهي الدية في المجتمع التشادي الحدودي مع ليبيا مثل المجتمعات الافريقية المتعددة الديانات والتي تعد دولا إسلامية وخصوصا الدول الحدودية مع الدول العربية ليست عرفا اجتماعيا عاما ولا تقليدا قبليا منفلتا من أي ضوابط بل هي حكما دينيا إسلاميا واضحا في الشريعة يطبق حصرا في حالات القتل الخطأ ويخضع لشروط فقهية دقيقة تتعلق بالنية والقدرة والصلح والعدالة ويهدف إلى حفظ السلم الاجتماعي ومنع الثأر وتكفير الخطأ مثله مثل هذه المجتمعات الإسلامية والعربية وخصوصا وأن تشاد كما ذكرنا سابقا على حدود ليبيا غير أن الفيلم يتعمد نزع هذا المفهوم من إطاره الديني وإعادة تقديمه داخل منظومة اجتماعية قمعية ما يحوله من آلية دينية للتكفير عن خطأ وجبر الضرر إلى رمز درامي للظلم والاستغلال وبذلك لا يكتفي الفيلم بنقد سوء التطبيق بل ينزلق إلى إدانة المبدأ نفسه عبر اختزاله في بعده الاجتماعي والمجتمع التشادي
البناء السردي والاختيارات الجمالية
حين يتحول الهم المحلي للغة سينمائية كونية
سينمائيا يعتمد (دية) على بناء سردي خطي واقعي يستثمر الفضاءات المهمشة والطرقات الطويلة والوجوه المنهكة ليعزز إحساس المشاهد بثقل المأساة النفسية والأخلاقية التي يعيشها البطل كما يعتمد على إيقاع هادئ ومعالجة بصرية هادئة تعتمد على الإيقاع المتأني واللقطات الطويلة مع توظيف واع للفضاءات الطبيعية والضوء الطبيعي بما يخدم الطابع الواقعي للعمل ويمنحه بعدا تأمليا قريبا من سينما المؤلف ويركز الفيلم على بناء الشخصيات أكثر من الحدث ويمنح الأداء التمثيلي مساحة مركزية وهو ما يفسر التقدير النقدي الذي حظي به أداء فيرديناند مبايساني كما تسهم عناصر الصوت والموسيقى المحدودة في تعميق البعد الدرامي من خلال الاعتماد على الأصوات المحيطة والصمت بوصفه عنصرا سرديا والصورة الطبيعية النابعة من استخدام الإضاءة المتوفرة في المكان دون تدخل تقني واضح مع توظيف الكاميرا المحمولة في عدة مشاهد لإبراز التوتر الداخلي والاضطراب للشخصيات لكن هذا الخيار الجمالي يخدم في ذات الوقت ذات الرؤية الفكرية بشكل واضح إذ لا يميز السرد بين سوء تطبيق الدية وتشويهها وبين المبدأ الديني ذاته بل يحمل الدية كفكرة مسؤولية الانقسام والعنف الاجتماعي ويقود المتلقي إلى تبني موقف معارض لها لإلغائها فيما بعد وعلى مستوى السينما التشادية يأتي دية امتدادا لموجة جديدة من الأفلام التي تسعى إلى إعادة تقديم تشاد سينمائيا خارج الصور النمطية عبر قصص محلية ذات أبعاد إنسانية كونية ويعكس الفيلم اهتماما متزايدا لدى صناع السينما التشاديين باستكشاف قضايا الهوية والذاكرة والتحولات الاجتماعية مع اعتماد إنتاج مستقل يواجه تحديات التمويل والتوزيع لكنه يراهن على المهرجانات الدولية كمنصة أساسية للانتشار وبهذا لا يمثل دية نجاحا فنيا فرديا فحسب بل يرسخ حضور السينما التشادية ضمن الخريطة السينمائية الأفريقية والعالمية ويؤكد قدرتها على تقديم لغة فنية خاصة تنبع من السياق المحلي وتخاطب جمهورا عالميا
الخطاب الحداثي وسينما ما بعد الاستعمار
من رؤية الدراسات السينمائية الإفريقية فيما بعد الاستعمار يمكن قراءة الفيلم ضمن خطاب حداثي يسعى إلى مساءلة المرجعيات التقليدية باسم العدالة المدنية والقانون لكن نعود لنقول أن الإشكال هنا يكمن في اختزال الديني داخل الاجتماعي وهو اختزال يفقد المفهوم عمقه التاريخي والفقهي ويعيد إنتاج ثنائية سطحية بين التقدم والتخلف وهذا التسطيح يضع الفيلم في منطقة رمادية بين النقد المشروع للممارسة الاجتماعية والانزلاق نحو إدانة مرجعية دينية كاملة دون الغوص داخلها ومحاولة تحليلها معرفيا ثم مساءلتها لاحقا ففي المجتمع التشادي المتعدد المرجعيات والديانات تزداد حساسية هذا الطرح فيه حين يصبح تمثيل الدية سينمائيا مسألة ثقافية وسياسية و تقدم الدية كطقس اجتماعي متخلف فهذا يغلق باب النقاش حول إمكان إصلاح الممارسة أو التمييز بين الدين وسوء التطبيق ويفتح أفق إلغائي ينسجم مع خطاب حداثي عالمي لكنه قد يتعارض مع تعقيد الواقع المحلي وتوازناتها الثقافية والدينية
بين أرث الأب السينمائي وصوت الجيل الجديد
يمكن النظر إلى فيلم دية بوصفه امتدادا معاصرا للمسار الذي أسسه المخرج التشادي محمد صالح هارون والذي يُعد على نطاق واسع أب السينما التشادية وصوتها الأبرز عالميا فمنذ أفلامه الأولى مثل وداعا أفريقيا دار عطشان رجل يصرخ وغريغريس رسخ هارون لغة سينمائية تقوم على الواقعية الهادئة السرد البسيط العميق والاهتمام بالشخصيات المهمشة داخل سياقات اجتماعية وسياسية معقدة وبينما يتقاطع فيلم دية مع سينما مجمد صالح هارون في اعتماده على الإيقاع المتأني والاقتصاد في الحدث مقابل التركيز على الداخل النفسي للشخصيات وعلى اليومي والهش بوصفه مدخلا لفهم المجتمع فإنه يشترك معه في توظيف الفضاءات الطبيعية والبيئات المحلية ليس كخلفية فقط بل كعنصر درامي يعكس العزلة والصراع والصمود وهي سمات مركزية في سينما هارون التي جعلت من تشاد فضاء سينمائيا إنسانيا ذا بعد كوني

ولذا ففيلم دية لا يأتي تقليدا مباشرا بل جزءا من موجة جديدة من الأفلام التشادية التي تأثرت بهارون وتبني على إرثه مع محاولة صياغة صوتها الخاص فبينما تحمل أفلام هارون غالبا بعدا سياسيا واضحا مرتبطا بالمنفى الذاكرة والحروب الأهلية يميل دية إلى معالجة أكثر حميمية وتأملية تركز على التجربة الفردية والعلاقات الإنسانية الدقيقة مع تقليل المباشرة السياسية لصالح التعبير البصري والصمت وتأتي هذه المقارنة بعد موجة سينمائية تشادية شابة ترى في محمد صالح هارون مرجعية فنية وأخلاقية سواء من حيث الإصرار على الإنتاج المستقل أو الرهان على المهرجانات الدولية كمنصة للوجود والاعتراف لكنها في الوقت نفسه تحاول تجاوز فكرة التلميذ والأستاذ عبر تنويع الأساليب والموضوعات وهكذا يمكن اعتبار دية جزءا من هذا الجيل الذي يعترف بهارون كأب رمزي للسينما التشادية لكنه يسعى إلى كتابة فصله الخاص داخل هذا التاريخ السينمائي المتشكل حديثا. وفي المحصلة لا تكمن أهمية فيلم ديا في موضوعه فحسب بل في الأسئلة الجوهرية التي يثيرها حول مسؤولية السينما الأفريقية في تمثيل المفاهيم الدينية وحدود النقد السينمائي حين يقترب من الدين في مجتمعات متعددة المرجعيات والديانات وهل مهمة الفيلم تفكيك سوء الممارسة الاجتماعية أم إلغاء المرجعية ذاتها وهي أسئلة تبقى مفتوحة في انتظار مقاربات سينمائية أكثر عمقا واتزانا قادرة على التمييز بين النقد والتبسيط وبين التحليل والتفكيك والإلغاء.














