- عبدالواحد اليحيائي
القصة القصيرة في شكلها الحديث فن مقروء، وهي في أسلوبها القديم فن محكي. والأسلوب الحديث مشغول بالشكل، هو تغيير في شكل الحكاية، وعن طريق هذا التغيير الذي يبدعه القاص يتحمل القارئ مسؤوليته تجاه ما يسمع، مسؤولية أن يتفق أو يختلف، أو أن يكون له رأي أو لا يكون، يغضب أو يبتسم، يحب أو يكره… الخ. الحكاية القديمة أيضاً تطلب من القارئ أن يتخذ موقفاً ما، لكن بطريقة أخرى تعتمد أكثر على المضمون في واقعيته وربما على أداء القاص معبراً عن قصته. فرق بين قاص مشغول بالأسلوب على طريقة المعاصرين والقاص القديم حين يروي الحكاية وينتظر تأثيرها المباشر. الأولون يثيرون الناقد أكثر، والآخرون يستجدون مزاجية القارئ وإن أجادوا في أساليبهم الحكائية.
واللغة الجميلة شرط في القصة بلا شك..
لأن اللغة وعاء للمشاعر الإنسانية، فنحن نفهم الآخر بمقدار ما تكون لغته واضحة، لذا كان الإخلال باللغة إخلال بالوضوح، إخلال بالأداة التي تنقل الفكرة من عقل إلى آخر. نقول لغة جميلة، ونعني بها لغة قادرة على إيصال المعنى المطلوب بأيسر الطرق وأوضحها وربما في مجال القصة القصيرة بأفضل الكلمات إثارة للوحي والإلهام. ولن تكون الأداة قادرة على ذلك كله إن أثقلناها بالأخطاء اللغوية والنحوية والتركيبية. أفهم أن تطوير اللغة من بعض مهام القاص أو الشاعر الكبير لكن ذلك لا يكون بجر المرفوع ونصب المجرور وغير ذلك من الأصول والقواعد، بل يقع التطوير في الغالب ببنية الكلمات التي يستخدمها القاص، أو في تحويل مفردة قديمة إلى استخدام حديث أو العكس بمعنى استخدام مصطلح عامي لتوضيح فكرة أو شيء حديث وغير ذلك، لكن من الذي يقوم بهذا العمل؟ يقوم به القاص أو الشاعر العالم باللغة، هو يعلم المتبع لكنه يغيره ومعه حجته، وليس الجاهل باللغة والإملاء والنحو الذي يجعل التطوير حجته حين يحاسب على جهله وسخفه، وحين يزعم إنه فوق اللغة وأساليبها وثوابتها التي لا يعرف عنها أو منها شيئاً.
والأساليب..
وجميل بلا شك أن ينوع القاص في أساليبه، وجميل أن يكون التجريب بين طرق الكتابة من مهام القاص المعاصر واهتماماته، وجميل هو التجديد والتطوير والابتكار في عرض الأفكار في كل ميدان وليست القصة القصيرة بدعا ًفي ذلك. لكن: يجب أن نتذكر أن التجديد لا يضمن الصحة دائماً، وأن تكون مجدداً فذلك لا يعني أن تكون مصيباً. التجديد رأي في الأسلوب أو في المضمون ننقله للجمهور وقد يقره هذا الجمهور فيخلق معه قاعدة جديدة، وقد لا يقره فيطويه النسيان، وقد تقره فئة من الجمهور وترفضه أخرى، وقد يقبله جيل من القراء ولا يستسيغه آخر.. كل ذلك وارد لكن غير الوارد أن يسعى قاص إلى إرغام الجمهور على قبول ما يرى أنه تجديد، فإن لم يقبلوا ألقى في وجوههم الحجارة، هو حين يفعل لا يتجاوز رجم ذاته ورجم التجديد الذي يبشر به.
والقاص الممثل قضية أخرى..
حين يقرأ قصة قصيرة، يصوغ القارئ بخياله أشياء كثيرة: صوت البطل وطريقته الصوتية في التعبير عن انفعالاته، تفاوت إجاباته، تشكيلات جسده حين يمارس فعلا ما… الخ، عند الإلقاء نطلب من القاص أن يمارس شيئاً من هذا الدور، دورا يشبه دور حكواتي المقاهي حين يقرأ طبعة شعبية من سيرة عنترة أو حمزة البهلوان أو سيف بن ذي يزن، لكن ليس كل قصاصنا يفعل ذلك، وبعضهم لا يستطيعه حتى لو أراده، لأنه قد يكون قاصاً موهوباً لكنه ليس بالضرورة ممثلاً مقبولاً فضلاً عن أن يكون موهوباً. بعض النقاد يعبر عن ذلك بأهمية أن (يتماهى) القاص مع قصته، لا بأس لـ(يتماهى) لكن ليستطع قبل ذلك. ولعل الشاعر أحمد شوقي رحمه الله كان أذكى منا حين كان يطلب من الممثل الكبير عبدالوارث عسر أن يلقي شعره بدلاً عنه في المجامع والأمسيات. القصة القصيرة في الأمسية قد تموت بالقاص والقارئ وقد تحيا بهما.