عبدالرحمن جماعة
الكشك في ليبيا هو ليس مجرد فن شعبي يعتمد على التصفيق وترديد بيت واحد من الشعر، بل هو نوع من أنواع التأمل (meditation) إن لم يكن أرقاها وأجداها!
قد يبدو هذا الكلام غريباً بعض الشيء، لكنك إذا فهمت التأمل ستعرف أن الكشك لا يختلف عن التأمل في شيء، وخصوصاً عند الحديث عن النتائج! وكل من جرَّب التأمل يُدرك تلك النشوة والراحة النفسية التي يشعر بها من يمارس هذا الفن، والتي تستمر لعدة أيام!
ولكن من أين استنتجت ذلك؟! إن هدف التأمل هو إيقاف العقل، أو بمعنى آخر هو إيقاف الصوت الداخلي الذي ينتحل صفة الأنا مكوناً بذلك ذاتاً وهمية، ثم يتماهى مع الشيطان، ومن هذا الصوت تنشأ المعاناة بسبب اجترار الألم! إن العقل لا يستطيع العيش إلا في الزمن، ونقصد بالزمن هنا (الماضي والمستقبل) لأن اللحظة الحاضرة التي نُسميها (الآن) هي لحظة خارج دائرة الزمن!
ولكي يعيش العقل في الزمن فلا بد أن يتغذى على نوع معين من الأفكار، وتكمن خصائص هذا النوع من الأفكار في قابليتها للتناسل والتمدد والتوسع بحيث تتجاوز اللحظة الحاضرة وتمتد إما رجوعاً إلى الماضى أو سفراً إلى المستقبل، وفي هذين الزمنين تكمن كل الهموم والمشاعر (السلبية)، فالخوف على سبيل المثال لا يكون إلا مما هو آتٍ، والحزن والندم لا يكون إلا على ما فات!
ومن خلال التركيز على فعل مستقر وثابت فإن العقل يفقد قدرته على الترحال بين الماضي والمستقبل، ويضطر لأن يحط رحاله في اللحظة الحاضرة! وهذا هو السبب في أن المتأمل غالباً ما يركز على التنفس لأن التنفس هو فعل ثابت ومستقر ولا يحدث إلا في الآن! ومن هنا يُمكننا فهم سر الراحة النفسية التي يشعر بها من يُمارس الرياضة، والتي يُحس بها المتصوفة بعد طقوس الرقص (الجدب) وبعد تكرار كلمة معينة لآلاف المرات مثل ترديد كلمة (الله). إلا أن المتأمل في الهندوسية والبوذية يقترحون ترديد كلمات لا معنى لها مثل كلمة (أوووووم) وذلك خشية على المتأمل من أن تتولد لديه الأفكار بسبب معاني الكلمات! لكن الكلمات التي يرددها من يُكشِّك لها معانٍ عميقة فكيف لها أن تمنع العقل من التجوال في أقبية الماضي ودهاليز المستقبل؟!
إن السر يكمن في انقسام ذلك البيت الشعري بين فريقين وكل فريق يردد شطراً من البيت بوتيرة ثابتة ومستقرة ومتناغمة، وفي اللحظة التي يقوم فيها أحد الفريقين بترديد شطره يكون الفريق الثاني متربصاً ليدخل في جزء من الثانية ليكمل الشطر الثاني حتى لا يختل التناغم، وهذا التربص هو ما يمنع العقل من الخروج عن (الآن) قيد أنملة وذلك بسبب عدم وجود مساحة زمنية تسمح للعقل بأن يحيد عن الآن! وبذلك تتحقق أعلى درجات الحضور في الآن، وهذه هي الغاية القصوى والوحيدة للتأمل!.
وهذا لا يعني أن التأمل هو غاية الكشك وإنما هو نتيجة له، لأن النتائج سواء أكانت إيجابية أم سلبية قد لا تكون مقصودة في حد ذاتها!. للاستزادة في هذا الموضوع يُمكنك مراجعة الكتب التالية: كتاب الحضور .. مايكل براون كتاب قوة الآن .. إيكارت تول كتاب التأمل .. جدو كريشنامورتي كتاب التأمل .. أوشو