بقلم :: سالم الهمالي
في ليبيا كما في كل البلاد الاسلامية شوق كبير ونزعة قوية لحج بيت الله الحرام، الركن الخامس في دين الاسلام، فأعداد المتقدمين لقرعة الحج اضعاف مضاعفة للعدد المخصص لليبيا من سلطات الحج في المملكة السعودية. موسم الحج مليئ بالحكايات التي يتداولها الناس عن اولائك الذين سبق لهم القيام بهذه الفريضة، والكثيرين من كبار السن يتذكرون احداث زيارتهم وادق تفاصيلها بالرغم من انقضاء عشرات السنين على حجتهم.
ارتبط الحج عند الناس بالمشقة، للمسافات الطويلة في السفر والترحال، والزحام الشديد عند اداء اركان وشعائر الحج. لذلك يشيع عند الناس القول المأثور: تبي الحج والسلامة !! دلالة على سمو الهدف وصعوبة الوصول اليه. سهولة السفر الآن بالطائرات التي اختصرت الزمن من شهور عديدة الى ساعات محدودة، لم تقلل احساس الناس بخصوصية رحلة الحج، فتبدأ الاستعدادات لايام وأسابيع قبل السفر، وتفتح المرابيع لاستقبال المودعين، وتقديم الحلويات والكعك والقلية. فيما يحرص البعض على إعداد وجبات لا ينقصها لحم الخروف الوطني.
لحظات خروج الحاج من بيته تشهد مظاهر احتفالية، تشبه العرس وتوديع الفراق، وكانهم يبعثونه الى مكان سيتغير فيه حاله، تُمسح فيه ذنوبه وآثامه، ويرجع نظيفا كيوم ولدته أمه. تختلط الدموع بالزغاريد، والأهازيج بالأدعية الدينة والتهليل والتكبير، يتحرك الموكب وعلمه الأبيض منتصبا من ركن السيارة الى مطار المغادرة وصالة الحجاج. لازال بعض الحجاج يحرص على اصطحاب تموين معه الى المشاعر المقدسة، تمر معجون ( تكره) و بسيسه، ولحم القديد، ودقيق الشعير، ومكرونة، وشاهي، وطماطم مرحي، وغيرها مما اعتاد عليه الأوائل. لا يغيب عن الحاج التوصيات، الدعاء في بيت الله عند الكعبة، السلام على النبي ( صلى الله عليه وسلم)، نساء عندهن ذهب قديم يردن استبداله، و مية زمزم يا حاج ما تنسى تجيب منها الله يبارك فيك !!
شوق النظر الى الكعبة يحرك حتى القلوب التي لم تتعود الالتزام بالطاعات، وانتظار الزحام وفقد احد الرفاق او ضياعه عن مكان سكناه قصص سمعوها وينتظرون نصيبهم منها. لذلك تجد العجائز يقبضن بقوه على ذراع محارمهن، خشية الضياع. في صالة الانتظار يتقاطر الحجيج، ويبدو اللون الأبيض ساطعا، بملابس الإحرام او الاثواب العربية الطويلة، واعداد كبيرة من الاقارب والأحباب المودعين بما يربك حركة المطار، لكنها من العادات التي لا يستطيعون التخلي عنها: هيا … بالسلامة يا حاج، ان شاء الله حج مبرور وذنب مغفور، سامحونا، الله يسمح لبعضنا لبعض …
كنت قد ذكرت مشقة الحج، وها هم الحجاج يشهدون بداياتها، فتأخير طائرات الحج امر معتاد، وفِي ظروف صالات الانتظار التي ينقصها الماء والحمامات النظيفة يبدا شيء من التململ، لا يستمر كثيرا، فالشوق الى ذلك المكان الطاهر يفوق اي شيء آخر، حتى تكثر الهمهمات والتكبير بسماع صوت الطائرة وهي تلامس مدرج الهبوط، تلاحقها الاعين، وتشعل في القلوب جذوة الحج …. لبيك اللهم لبيك … لبيك لا شريك لك لبيك …
القرعة هذا العام صدفت، عمتك مسعودة طاح عليها العود وكان نصيبها تحج، وبالطبع تحتاج لمحرم وهو سي مسعود. اكثر من عشر سنين يسجلون أسماءهم في القرعة، لكن الحظ ما كتب إلا هذه المرة. فرحت مسعودة، لها اكثر من ثلاثة شهور وهي لا تتكلم الا عن الحج، وتجهز في عوالتها. عندها الضغط والسكر، والوزن زايد وتاخد في الدواء بغير انتظام، يعني كل يوم بيومه. سي مسعود في الخمسة وسبعين لكن صحته ما شاء الله، الصبح يفطر على دحيه نيه، وياخد معها قرطوع زيت زيتون وطاسة شاهي خضرا، واذا تغير الفطور يكون زميته، على هذا الحال لأكثر من خمسين عام. ديما يكرب ذراعه ويقول الحمد لله: لا ضغط لا سكر !! فيه من بيصارع ؟!
بعد شيء من الهرج ركبوا الطائرة بجهد جهيد، فلان بيجلس بجانب جماعته، فلانه ما تجلس جنب واحد غريب، هذا جلس في الكرسي بالغلط … موال طويل … اخيراً جلس الجميع، واغلق المضيفين أبواب الطائرة وسمعوا صوت احدهم يتحدث الى الحجاج ويلقي عليهم تعليمات السلامة، التي لم ينتبه اليها الغالبية وتعاملوا معها بعدم اكثرات. سي مسعود أوثق الحزام حول عمتك مسعودة، ثم حزامه وبدأوا في التلبيه … لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك ..
بعد عدة مرات، شعر بِيد تحرك كتفه، التفت اليه، وسمع: مازال يا راجل !!
لم يعجبه ما سمع، تبرم وجهه ورد على محدثه: وانت مالك ومالي … واستمر في التلبيه
سي مسعود يتحرق لزيارة البيت الحرام، وميت على الحج من سنين، وعنده نيه ان يحج لله، فلا يوجد عنده وقت ليضيعه. و مسعودة تردد معه بصوت خافت لا تكاد تسمعه. تمنى ان الحجاج يلبوا معه، وامتعض من التهاء بعضهم بحكايات لا علاقة لها بالحج، لكنه لم يكلم احد، خصوصا بعد ان سمع ذاك الذي وخز كتفه يقول نبدؤها عند الميقات.
أشعلت الإضاءة الداخلية في الطائرة مع صوت الكابتن وهو يقول بصوت واضح ويكرر: نحن الآن في مكان الميقات، عليكم بإعلان نية الحج في السر والبدء في التلبية …
عجت الطائرة باصوات الحجيج، كلهم يلهجون بالتلبية، وسي مسعود أكثرهم، التفت الى زوجته وقال لها: هيا يا حاجة … من توا نحنا في حج … محرمين … قولي النية في سرك وزيدي من لبيك اللهم لبيك … جو مفعم بالروحانيات والإيمان …
حطت الطائرة عند الرابعة قبل الفَجْر، وسلكت طريقها بتؤدة الى مربضها، وسي مسعود ينظّر من النافدة الى الطائرات في المدرج وهي تُفرغ حجاجها من اقطاب المعمورة، من كل فج عميق.
طوابير طويلة في انتظار ختم الجوازات، ابصم هنا، انظر للكاميرا …
وصلوا صالة المطار، زحام آخر، أفواج من الحجيج تتوافد، يموجون في الصالة في كل الاتجاهات. بعد لغط وجدل بدأ توجيههم الى الحافلات. هنا، وجد سي مسعود انه سيذهب في حافلة تختلف عن حافلة رفيقه سي بلقاسم، من قريته ” تلمسوس”، فالمسؤول الليبي في مدينة الحجاج في جدة وزعهم على اماكن سكناهم المختلفة. تردد قليلا، ثم تذكر انه الآن محرم، ولا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.
اثاره مجموعة من الحجاج الذين كانوا معه في الرحلة، يتكلمون بصوت عالي، وكانهم في عراك، وسمع احدهم يقول: عليا الطلاق ما نمشي نسكن في ” كدي” ؟! نحنا نسكنوا في الأبراج كيفنا كيف العرب الاخرى، وإلا مستقصرين حيطنا ؟!
سألته الحاجة مسعودة: خيرهم يتعاركوا يا حاج مسعود، قوللهم راه يخربوا حجتهم ؟!
الحاج مسعود ينظّر اليهم وهو صامت، عرف ان الجدال حول مقر السكنى في ” كدي”. انتابه بعض الفضول، وسأل: كنها ” كدي” ؟!
استعلجه المسؤول الليبي: هيا يا حاج .. هيا هيا.. ركب حويجتك في الحافلة. اغلقت الحافلة بابها، تحركت عجلاتها والمسؤول لازال في جدال مع جماعة عليا الطلاق .. والحاج والحاجة مسعودة بدأوا في التلبية.. لبيك اللهم لبيك … لبيك لا شريك لك لبيك …
في الحافلة من مدينة جدة على شاطئ البحر الأحمر الى مكة المكرّمة، استرعى العمران الحديث الحاج مسعود، عَهده بجدة قبل اكثر من اربعين عاما انها اصغر بكثير جدا مما تَراه عيناه الآن، حيث بدت مدينة واسعة وطرق حديثة وعمارات عالية وبيوت فخمة. هز راسه يمينا ويسارا عدة مرات وهو يتمتم، والحاجة مسعودة تسأله: خيرك يا حاج .. لا بأس … ان شاء الله خير ؟!
نظر اليها قليلا، أشار الى العمران في الأفق و هَمْ بالكلام، لكنه استدرك وسكت !! وبدأ في التلبية والحاجة مسعودة تتبعه … لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك
المسافة الى مكة ثمانون كيلومتر، تستغرق خمسة وأربعون دقيقة بالسيارة في الأوقات المعتادة، لكنها تتضاعف فترة الحج، نتيجة الزحام والبوابات الأمنية على الطريق، لتبلغ الثلاث او اربع ساعات احيانا. قبل دخول مكّة، عرجت الحافلة ناحية طريق جانبي الى موقف واسع، تتوالى في الحافلات في طوابير إجراءات التفويج للحجاج، ركب معهم ادلاء وزودت الحافلة بصناديق ماء زمزم ” هدية الحاج” و سلال صغيرة فيها مطويات توعوية للحاج وكتيبات بمناسك الحج، مع قليل من التمر ومعمول بالتمر وشريحة جبن وقارورة عصير فواكه، هدية خادم الحرمين الشريفين لحجاج بيت الله الحرام.
التهم الحاج مسعود ما في السلة، وكذلك الحاجة مسعودة التي شعرت بارتخاء من طول الرحلة والانتظار، وأدركت ان السكر عندها لابد انه هابط. انتعشت بما اكلت، سألت زوجها: رفيقك بلقاسم من المطار ما عاد رأيناه ؟!
اجاب الحاج مسعود: هو كان معانا في نفس المجموعة، لكن في المطار تغير برنامجه، وركب حافلة ثانية. زمان، يا مسعودة لما حجيت بأمي، من ” تلمسوس” كان فيه عشرين حاج وحاجة، لكن الان الدنيا تغيرت، والعدد نقص، انا وإياك والحاج بلقاسم. حتى بلقاسم ملحق تلحيق … عنده واسطة، اسمه ما هو في القرعة، لكن عنده نصيب … الحج مكتوب له هذا العام.
سائق الحافلة السوداني واضع يديه معقودتين خلف راسه، ورجليه على مقود الحافلة، ينتظر في انتهاء الإجراءات. تحدث مع ركابه بلطف وروح فيها الكثير من الدعابة. ركب الدليل وتحركت الحافلة من جديد … دقائق معدودة وبرزت عليهم ” ادخلوها بسلام آمنين” مكتوبة بالخط العريض على قوس كبير، مؤذنا بدخول مكة المكرمة. اشتعلت عيني الحاج مسعود بالشوق الى الكعبة، وترقرقت بدموع الفرح، التي انحدرت على وجهه المستبشر. مَدّ رقبته يترصد ملامح مكة، لعله يحظى بالنظر الى الكعبة من بعيد. الحافلة تقترب شيئا فشئيا من مكة، ورقبته تمتد أطول وأطول بميل ناحية اليمين قليلا ثم اليسار، لعله يظفر بتلك النظرة … هاله العمران، والعمارات العالية التي لم يرى شيئا منها في حجته السابقة … حاول بكل الطرق ان يرى الكعبة، والحافلة تهوي الى وادي مكة بتلاله وجباله، دون فائدة.
أشار المرافقين الى ذلك البناء العالي، والساعة الكبيرة على قمته، وهم يتسألون: اين الكعبة ؟!
عرجت الحافلة الى اليمين، واستمرت في سيرها تصعد منحدرا ثم تهبط الى منخفض حتى وصلت وجهتها امام احد الفنادق وتوقفت. نطق السائق: الحمد لله على سلامتكم يا حجاج بيت الله و” ضيوف الرحمن”. أطربت هذه الكلمة الجميع، ومسعود يرددها بزهو … ضيوف الرحمن !!
نزل الحجاج من الحافلة، دخلوا الفندق، وصعد أربعة من البنغال فوق الحافلة، وبدأوا يفكون الحبال والأربطة التي تحكم الغطاء حول حقائب الحجاج.
في بهو الفندق، ساد الهرج وشيء من الجدال عند توزيع الغرف. بعضهم لا يريد الطوابق العليا، آخرين احتجوا على فصل جزء منهم لأن عددهم اكثر من غرف ذلك الطابق. اما الحاج مسعود والحاجة مسعودة فقد جلسوا بهدوء، منتظرين دورهم في توزيع الغرف، وألسنتهم منشغلة بالتلبيه.
أسر الحاج مسعود الى زوجته: زمان اول ما تدخل مكة، ترى الكعبة امامك، ينشرح صدرك وتهيج في حب الله وبيته. …. ايه الدنيا تغيرت … كلها عمارات وفنادق !!
مكان جلوس الحاج مسعود أتاح له النظر ومتابعة ما يجري حول منصة الاستقبال في الفندق، تتعالى الأصوات حينا ثم تهفت، لتتعالى من جديد، فرز من الكلام جدل حول الْغّرف، ومن يسكن في الطوابق العليا، وعدد المصاعد في هذا الركن او ذاك. مستمر في التلبيه، بصوت خافت، يتقطع احيانا ويعود كل مرة يرى فيها الايدي ترتفع حول منصة الاستقبال.
وهو غارق في تلبيته، توقف بجانب كرسيه رجل يبدو في الثلاثين من العمر، وسأله:
– مرحبا يا حاج
– مرحبتين وعافية … كيف حالك
– اوصلتوا اليوم يا حاج
– ايه .. نعم … مازال ما دخلنا للغرف
– حتى انتم حذفوكم في ” كدي”
– كيف قلت ؟!
– شكلكم ناس طيبين … ما تعرفوا حد في البعثة
سمع اسمه ينادى عليه: مسعود اسماعيل السحبو/ مسعودة ادريس. نهض من كرسيه الى المنصة، وعرّف بنفسه.
– تفضل .. هذا المفتاح .. غرفة ١٢١٤ في الدور الثاني عشر
أخذ المفتاح .. تذكر ان يسأل عن المصعد … ان شاء الله ” الأسانسير” يخدم !!
– ما فيه مشكلة يا حاج … كله تمام
توكل على الله، وأشار الى الحاجة مسعودة لتتبعه وهو يجر حقائب السفر، المتروسة بما اعدته الحاجة، زميته، زيت، طماطم، مكرونة، دقيق شعير، قديد …
قبل دخوله المصعد، سمع احد المشرفين يتكلم بصوت عالي:
اسمعوا يا حجاج .. الحافلات ستكون جاهزة وواقفة قدام الفندق الساعة الثانية عشر .. للذهاب للحرم والقيام بمناسك العمرة .. لا تتأخروا .. ما تنسوا بطاقاتكم .. ما ترفعوا معاكم شيء .. اللي يتاخر يلوم نفسه ..
قبل الثانية عشر بخمسة دقائق كان الحاج مسعود والحاجة مسعودة واقفين في المكان الذي أشار اليه المشرف، مضت الدقائق تباعا، الثانية عشرة، وخمس وعشر وربع ونصف حتى الساعة واحدة ظهرا، كلما حضر زيد غاب عمر الذي ذهب يبحث عن من يفتقد من رفاقه، وكلما حضر عمر غاب زيد لنفس السبب. كثر الكلام، تأخرتوا بينا … ليه عليكم .. والحاج مسعود اشغل نفسه بالتلبيه والحاجة تتبعه في سرها … لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج.
ظن الحاج مسعود انه سيتذكر معالم مكة التي زارها قبل اكثر من اربعين عاما، لكن بدت له الآن وكأن كل شيء فيها تغير، وأدرك ان عليه ملازمة المشرف وإلا فمصيره الضياع من اول يوم، والأسواء لو ضاعت منه الحاجة مسعودة. توقفت الحافلة عند ” المسفلة”، نزل الحجاج ليختلطوا بأفواج من الحجيج تتقاطر من كل صوب وناحية، لا تعرف مَن معك ومِن مجموعتك ومن هو من فريق آخر. دب القلق عند الحاج مسعود، احكم القبض على ذراع مسعودة وعينه على المشرف.
كل الكلام والتوصيات التي قالها المشرف في الحافلة ذهبت ادراج الرياح، فمن الثلاثين حاج الذين معه، لم يبقى إلا تسعة، والاخرين ضاعوا في وسط الزحام. توصياته اشارت عليهم، انه في حالة الضياع من المجموعة، اقضوا شعائر العمرة، ثم الالتقاء عند الساعة في ساحة الحرم امام باب ” الملك فهد” !!
اعاد قصة الحج عشرات المرات للحاجة مسعودة، حتى ظنت انه يعرف المكان حجرة حجرة وشارع شارع، إلا انها الآن احست من نظرة الحيرة في عيونه ان كل ما رآه في الماض اصبح اثرا بعد عين. كثيرا ما حكا لها عن الكعبة التي تراها عن بعد، والآن غدت محاطة بمباني عالية تحجبها عن الناظرين.
عند باب ” الملك عبدالعزيز”، اعاد المشرف على مجموعته ان عليهم تقديم الرجل اليمنى عند الدخول، وان يقولوا: ” أعوذ بالله العظيم وبوجهِه الكريم وسلطانه القديم مِن الشيطان الرجيم، بسم الله والحمد لله، اللهم صَلِّ على محمد وعلى آل محمد وَسَلَّم، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك”
توكلوا على الله ودخلوا الحرم، قلوبهم تخفق من خشية الله، فها هي الساعة التي انتظرتها الحاجة مسعودة طوال عمرها، وخشت ان يحين اجلها قبل ان تكتحل عينيها بالنظر الى الكعبة او تطأ أرجلها الحرم، حيث تعدل كل صلاة مئة الف صلاة. شعرت بموجة من الفرح والبهجة تغمرها، وطيف من النور يغطي عينيها، تسارعت دقات قلبها، حتى ظنت انه سينشق عن صدرها. قابضة على ذراع الحاج مسعود، تتبعه وهو يشق الصفوف والأمواج البشرية من الحجاج والمعتمرين، واحدى عينيه على المشرف، والاخرى مفتوحة على وسعها تترصد اطلالة الكعبة المشرفة، ولسانه يلهج بصوت عال، يرتفع مع كل خطوة يخطوها … لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك .. ان الحمد والنعمة لك والملك .. لا شريك لك لبيك
رجفة هزت بدن الحاج مسعود، وهزت معها الحاجة مسعودة، تهدج صوته وانهمرت الدموع من عينيه، بما لم تعهد الحاجة مسعودة. ادركت حينها انه رأى الكعبة، فما من شيء يهزه مثلما حديثه عنها، فما بالك وهو يراها راي العين. سمعته يقول: ” اللهم زد هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة” … اللهم انت السلام ومنك السلام …
عند درجات الصحن تجلت الكعبة بكامل جمالها ورونقها، خارت الحاجة مسعودة جاثية على ركبتيها، ساجدة لله امام بيته العتيق على هذا الشرف العظيم … لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك لبيك …
حج بيت الله زيادة عن كونه ركن من اركان الاسلام، واجب على من توفرت له الاستطاعة، يحمل في شعائره ومناسكه معاني عظيمة، تتجلى فيها قمة الخضوع للخالق وتعبده بما يحب وافترض على عباده، بالاضافة الى وجوب صدق النية وتحري الرزق الحلال لقضاء النسك. تهفو اليه قلوب المسلمين في كافة اركان المعمورة، يتوافدون من كل فج عميق، لا لشيء إلا طاعة لله وعبادة له، آملين في غفران الذنوب والتجاوز عن السيئات. كل الالسن تلهج بذكر الله، حمده وشكره واستغفاره والثناء عليه بأسمائه الحسنى وما تيسر من الدعاء، وتبتهل اليه بقضاء الحوائج من امور الدنيا والفوز بجنة النعيم والخلود.
لذلك يحرص الأتقياء على صدق النية وتنقيتها من شوائب الرياء، وتمحيص الرزق الحلال الذي لم يدخله الحرام لا من قريب ولا بعيد، ومجاهدة النفس بتحمل وعثاء السفر وما يصاحب الرحلة من مشقة ومصاعب. الحاجة مسعودة عملت لسنين، تنظف التمر وتعجنه للبيع في شهر رمضان، وتجمع كل ما تحصل عليه تكاليف حجها، والحاج مسعود كذلك، حرص ان يكون كل ماله مما أنتح وباع من مزرعته.
في اللحظة الَتِي سجدت في الحاجة مسعودة عند رؤيتها للكعبة، انفرط عقدهم مع المشرف وغاب وسط الزحام، التفت الحاج مسعود يمينا ويسارا عدة مرات بلا فائدة، اصبح وحيدا مع زوجته الحاجة مسعودة للبدء في مناسك العمرة. بحث عن العلامة الخضراء الدالة على الخط المقابل للحجر الأسعد، وسار نحوه والحاجة مسعودة تمسك بذراعه. ما وصل اليه حتى رفع يده مشيرا الى الحجر الأسعد مكبرا ” الله اكبر”، وطفق يلهج بالتسبيح والتكبير والتهليل شكرا لله … بلا حدود
يدعو ويبتهل بكل جوارحه، والحاجة مسعودة تعيد ما تسمع منه وتضيف من عندها ما تعرف وما خطر ببالها. امواج الطائفين تتدافع، وتنحو بهم للاطراف، حتى تصدمهم مجموعة جديدة تخترق الصفوف للاقتراب من الكعبة.
سريعا، ادرك الحاج مسعود ان مكانه في الطواف سيكون في الاطراف، لحرصه على عدم ايذاء ايا من الطائفين الذين يكثر ازدحامهم وتلامسهم كلما اقتربوا من جدار الكعبة. استرعته خفة الحركة للحاجة مسعودة، وكانها ليست هي التي يعرف، وبدت وكانها خالية من الامراض، خصوصا اوجاع المفاصل وتعب الركبتين. تكاد تَطِير، وهي تلهج بالدعاء: يا رب هنئ بلادنا.. يا رب فرج عليها .. يا رب ما لينا غيرك .. يا رب احفظ اولادنا .. يا رب من ليها غيرك
ذكرها الحاج مسعود بأن تدعو لنفسها وتطلب المغفرة والجنة، وتدعو للأولاد والبنات، وإجابته: كلهم، المسلمين والليبيين اولادي وبناتي …
اكملوا الأشواط السبعة، وجدوا فسحة أعانهم عليها احد الصالحين، صلوا ركعتين، وتوجهوا الى سقيا زمزم، شربوا منها حتى تضلعوا، بنية الشفاء والهناء والتنقية من الذنوب والآثام. عند الصفا، عمد الحاج مسعود نحو الكعبة، وقرأ ” ان الصفا والمروة من شعائر الله … شاكر عليم”، وبدأوا سعيهم بين الصفا والمروة، ولأول مرة الحاجة مسعودة تسابق الحاج مسعود، وكانها لم تشكو يوما من الام الركب. في الشوط السابع انتهى عند المروة، واجه الكعبة ودعا الله كثيرا وطويلا والحاجة تُؤمن على دعائه، لم يترك خيرا إلا ودعا به في خضوع وتذلل. في ساحة المسجد قصّت الحاجة مسعودة مقدار إصبعين من شعرها، ونتفت بالمقص من شعر راس الحاج مسعود ما استطاعت.
الحمد لله يا حاجة. ان شاء الله ربنا يتقبل العمرة … والآن أين الساعة ؟
سأل من توسم فيه المعرفة عن باب ” الملك عبدالعزيز”، أشار عليه بالمشي الى اتجاه القصور الملكية، ثم ناحية اليمين الممر الضيق بينها وبين الحرم حتى يرى برج الساعة ” وقف الملك عبدالعزيز”، هناك سيجد باب ” الملك عبدالعزيز”، والساعة تتوسط الساحة. شكره، وتقدم الى غايته، ساحة مملؤة بالحجيج من كل الملل والنحل، شيوخ كبار واطفال صغار وبعضهم رضّع، البعض جالس، وكثيرون يتحركون في اتجاهات مختلفة، اغلبهم داخلين الى الحرم فصلاة العصر إذن وقتها.
أقيمت الصلاة، انتظم حيث كان في الصف، والحاجة على مقربة منه حيث وجد مكان في صف النساء، بعد السلام وجد طريقه الى الساعة في وسط الساحة، وقبل وصولها ببضعة أمتار تهيأ له انه رأى احدا يعرفه، الاستاذ مفتاح، تلاقت الاعين وتلتها الخطوات !!
– حاج مسعود ؟! ما شاء الله قدوم مبارك .. متى وصلتم ؟!
– عند الفجر، وقبل العصر بقليل أكملنا العمرة.
– عمرة مقبولة ان شاء الله .. آه .. في اي برج تسكنوا ؟!
– انا نسكن في فندق .. في ” كدي”
– ” كدي” … غااااادي … لا حول ولا قوة إلا بالله … انا نسكن هنا … وأشار الى البرج الطويل الذي أمامه بخطوات … اقل من خمسين متر.
– كل واحد ونصيبه يا استاذ مفتاح … الحمد لله على كل حال
– وكيف تاكلوا ؟!
– احنا مازال ما قلنا بسم الله، لكن الحاجة عندها العدة كاملة … الحمد لله
– لا .. احنا امورنا تمام التمام … الاكل من البوفيه … ٢٤ ساعة مفتوح، تتمنى غير تاكل ديما .. لحم ضأن، دجاج، حوت، فاكهة، عصائر، يا حاج مسعود حتى قهوة الاكبريسو ما ناقصة … الحقيقة السكن عال العال … والاهم يا حاج، حتى الحرم ما تحتاج تنزل اليه، يمكن تصلي في غرفتك معاهم.
– باهي يا استاذ مفتاح … ان شاء الله نتلاقوا على الخير، والايام لقدام
– اي خدامة يا حاج مسعود تدلل، انا نسكن في الدور الثاني عشر، وهذا العنوان ومد له الكرت… البوفيه مفتوح ٢٤ ساعة
عند الساعة وقف الحاج مسعود، يلتفت حوله، عله يرى المشرف …