سعد السني
منذ سنوات مضت ،قرأت رواية في منتهى الروعة للروائي الروسي الراحل جنكيز أيتماتوف ،وتحمل اسم (ويطول اليوم أكثر من قرن ) وبعيدا عن تفاصيل الرواية، لكن مضمونها يتمحور حول فترة الاستبداد الستالينية التي تميزت بالقمع في الاتحاد السوفيتي السابق ،وكما هو الحال في جميع الدول المحكومة بالحديد والنار لا يمكن الكتابة بوضوح مما يدفع الكاتب إلى استخدام أساليب رمزية وإيحائية ،ويتميّز جنكيز أيتماتوف باستخدام وتوظيف الأساطير الروسية القديمة للتعبير عن أفكاره ،ومن تلك الأساطير التي استخدمها في روايته تلك،أسطورة تعود إلى شعوب الجمهوريات الجنوبية للاتحاد السوفيتي آنذاك ،والأسطورة تحكي قصة طائر يسمى {دوننباي} يعيش في تلك المناطق ، تقول الأسطورة إن قبائل تلك المناطق عندما كانت تتقاتل، فإن لها طريقة قاسية في التعامل مع الأسرى ،فهي تحولهم إلى رعاة وعبيد عن طريق مسح ذاكرتهم تماما بطريقة وحشية حيث يقومون بنزع شعر رأس الأسير ،(نزع وليس حلاقة} ويأتون بجلد بعير ذبح للتو ويثبتونه على رأس الأسير ، ويتركونه في الشمس مع التعذيب اليومي والحرمان من الشراب والطعام لمدة من الزمن. حتى يجف ويتيبس جلد البعير على راْسه ،بعد فترة ينسى الأسير اسمه وأصله وفصله ،فيأتي سيده الذي يريد استرقاقه ويأخذه إلى بيته ويرفع عنه العذاب ويقدم له الطعام والشراب ويقوم بالاعتناء به ، فيتحول إلى عبد مطيع لهذا السيد ،ولا يعرف غيره ،لأنه يكون قد نسي كل شيء وفقد هويته تماما ،ويطلق على هذا المسكين اسم {مانكورت}. ولكن تظل عند هذا المانكورت عقدة وهي أنه لا يقبل الاقتراب من جلد البعير الذي ثبت على رأسه إلى الأبد ،وإذا أراد منه سيده قتل شخص ما يومئ إليه بيده. إنه يريد نزع الجلد من على رأسك ، فيهاجمه المانكورت ويقوم بقتله. في إحدى المرات خرجت امرأة تبحث عن ابنها الذي وقع أسيرا عند قبيلة من القبائل التي تُمارس هذا السلوك المرعب مع الأسرى ، وبعد تجوال طويل وبحثٍ مُضنٍ دام سنوات عثرت على ابنها ، فوجدته تحول إلى مانكورت.
ويعمل راعيا للماشية عند أحد سادة القبيلة ، اتجهت نحوه وهي تركض فرحة بالعثور على ابنها لكن الابن استغرب إقبال المرأة عليه فقد نسي كل شيء ، في الأثناء كان سيده يراقب الموقف، فأشار إليه أن المرأة تريد نزع الجلد من على رأسك فأخرج المانكورت قوسه ووجهه نحوها وهي تصرخ ، دوننباي، دوننباي، وتعني بلغة الجمهوريات الجنوبية ،أنا أمك ، أنا أمك ، لكنه لم يمهلها ، ورماها بسهم فتحولت إلى طائر الدوننباي، أراد جنكيز أيتماتوف في سياق روايته أن يُبين كيف تقوم الأنظمة القمعية عن طريق الترغيب والترهيب بتحويل الشعوب إلى مانكورتات فيستلبها سيد واحد لا بديل له ، وحتى عندما يموت السيد فإنها تبحث عنه في ابنه أو حفيده ، ليس لها إلا سيد واحد ووحيد يسكن ذاكرتها الممسوحة،لا تقترب من المانكورت ، وحذار من محاولة نزع الغطاء الذي يغلف دماغه. دمتم بذوات مستقلة.