تقرير : منى توكاشها
في مناسبة وطنية احتفت بها الأوساط الحقوقية والسياسية في ليبيا، سلّط تقرير أممي صادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة، خلال جلسة افتراضية عُقدت في أبريل 2025، الضوء على واقع مشاركة النساء في المواقع القيادية في الدولة الليبية.
التقرير، الذي جاء متزامنًا مع اليوم الوطني للمرأة الليبية، لم يخلُ من مفارقات حادة؛ فبينما تشير الأرقام إلى نسبة مشاركة نسوية جيدة في الوظائف الحكومية، إلا أن تلك النسبة لا تعني بالضرورة تمكينًا فعليًا أو مشاركة في اتخاذ القرار.

وبحسب التقرير، تشكّل النساء قرابة 46% من القوة العاملة في مؤسسات الدولة، وهو رقم يبدو مشجعًا للوهلة الأولى، لكن سرعان ما يتلاشى هذا الانطباع حين نلاحظ أن حضورهن القيادي يكاد يكون هامشيًا.
فما تزال المناصب السيادية والإدارية العليا في ليبيا حكرًا على الرجال في أغلب الأحيان، رغم وجود كفاءات نسائية لافتة أثبتت قدرتها في مختلف القطاعات.
كما أشار التقرير إلى أن هذه الفجوة بين المشاركة العامّة والتأثير القيادي تظل قائمة، مما يعكس الفجوة الواضحة بين الواقع الرسمي والتطبيق العملي للتمكين.
التمثيل القطاعي للنساء: حضور قوي في التعليم والتمريض، وغياب في الدفاع والسيادة.
الدراسة كشفت أن تركيز النساء يتركز في قطاعات تقليدية، يُنظر إليها عادةً على أنها “مناسبة” للنساء، مثل التعليم بنسبة 70%، والصحة بنسبة 63%. ورغم أن هذا يمثل خطوة مهمة في تمكين المرأة في هذه المجالات، إلا أن النساء لا يمثلن نفس النسبة في قطاعات أخرى حيوية وأساسية في بناء الدولة مثل الدفاع والداخلية.
وعلى وجه الخصوص، فإن نسبتهن في هذه القطاعات لا تتعدى الـ4% في الدفاع و7% في الداخلية.
هذه الأرقام تثير القلق بشأن مستوى تمثيل النساء في اتخاذ القرارات الكبرى، والتي تؤثر بشكل مباشر في السياسة العامة والأمن القومي.
أما في القطاعات الأخرى مثل الاقتصاد والتخطيط، فإن التمثيل النسائي لا يزال ضئيلًا جدًا، وهو ما يطرح تساؤلات جدية حول إمكانية إصلاح هذا الوضع في المستقبل.
وفي هذا السياق، كان من الضروري أن يشير التقرير إلى أن هذه الفجوة لا تعود فقط إلى نقص في الكفاءات النسائية، بل إلى غياب سياسات تروج لمشاركة النساء في المناصب القيادية داخل هذه المجالات.
كما أظهر التقرير أن البيئة المؤسسية في ليبيا لا تزال تفتقر إلى آليات تضمن ترقية النساء على أساس الكفاءة، مع وجود قوانين داعمة لم تُفعّل بفعالية، واستمرار ممارسات التمييز الجندري بشكل غير معلن داخل مؤسسات الدولة.

فالتغيير المنشود يتطلب إصلاحات جذرية في نظام الترقيات والاختيار، مما يسمح بإعطاء النساء الفرصة المتساوية للمشاركة في القيادة الحقيقية.
رؤًى من الداخل: مسؤولات وقياديات يدلين بشهاداتهن.
خلال الجلسة الافتراضية التي نُظمت بالشراكة بين هيئة الأمم المتحدة للمرأة وبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، شاركت مجموعة من المسؤولات والناشطات في تقديم رؤى واقعية وملموسة حول التحديات البنيوية والاجتماعية التي تواجه النساء الراغبات في تقلد مناصب قيادية. وقد حملت هذه المشاركات شهادات حيّة تعكس الصورة الحقيقية للمصاعب التي تواجهها النساء في ليبيا.
الدكتورة حورية طرمال: التغيير يبدأ من الداخل.

وزيرة الدولة لشؤون المرأة، الدكتورة حورية طرمال، ألقت كلمة مؤثرة خلال النقاش، أكدت فيها على أهمية التكاثف الداخلي بين النساء من أجل كسر الحواجز، مشيرة إلى أن التغيير لا يمكن أن يأتي من الخارج فقط، بل لا بد من شراكة حقيقية بين الفاعلين المحليين والدوليين. وقالت:”يجب أن تتضافر الجهود الدولية والمحلية. أدعو جميع نساء الوطن إلى التكاثف في جميع القضايا، سواءً كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. أنا متفائلة ومتحمسة رغم كل ما يحيط بنا، لكنني على ثقة كبيرة بأننا معًا سنحقق هذا الهدف. سنهيئ بيئة آمنة للمرأة الليبية.”
وقد أضافت الدكتورة طرمال أن التغيير يحتاج إلى إصرار وعمل جماعي يهدف إلى إزالة جميع العوائق القانونية والاجتماعية التي تقف في وجه تمكين المرأة.

وأكدت على أن تعزيز موقف النساء في الحياة العامة لا يمكن أن يتم إلا إذا كانت هناك إرادة حقيقية من القيادة السياسية لتفعيل القوانين التي تدعم المساواة.
فلورنس باستي: نحتاج إلى سياسات عملية لا مجرد توصيات.
من جهتها، أكدت فلورنس باستي، ممثلة هيئة الأمم المتحدة للمرأة في ليبيا وتونس، على ضرورة تحويل نتائج التقرير إلى آليات ملموسة.
وقالت:”يجب علينا تعزيز الحوكمة المؤسسية، وتطبيق أنظمة ترقية قائمة على الجدارة، وتهيئة بيئات عمل آمنة وداعمة للمرأة. ويجب علينا مواصلة الاستماع إلى أصوات النساء، لا سيما العاملات في الصفوف الأمامية في الخدمة العامة.”
وأضافت باستي أنه من الضروري التأكيد على أن تمكين المرأة في المناصب القيادية لا يعني فقط منحها الوظائف، بل يجب أن يصاحب ذلك تطوير مهاراتهن وقدراتهن من خلال برامج تدريبية تعزز من قدرتها على إدارة المناصب القيادية بفاعلية. كما أكدت على أن توفير بيئة عمل مؤيدة لحقوق النساء يمكن أن يكون له تأثير إيجابي كبير في ضمان تكافؤ الفرص في العمل.
من الجنوب: شهادات من الواقع اليومي.
من المناطق الجنوبية في ليبيا، حيث التحديات تتضاعف بفعل الظروف الجغرافية والبنيوية، جاءت شهادات مؤثرة من نساء يُكافحن من أجل كسر الحواجز التقليدية. وأكدت النساء من هذه المناطق أن العوامل الاجتماعية والثقافية تلعب دورًا كبيرًا في تقييد طموحاتهن، كما أن بيئات العمل في هذه المناطق تفتقر إلى الدعم المؤسساتي.

عائشة معتوق: التأهيل ضرورة وليس رفاهية.
رئيسة نقابة الصناعات التقليدية في الجنوب، عائشة معتوق، تحدثت عن تجربة النساء في الجنوب، مؤكدة أن هناك حضورًا نسويًا قويًا، لكنه غير مرئي، وغالبًا ما يتم تجاهله من قبل صناع القرار. وذكرت: “في مجتمعاتنا، هناك نزعة واضحة لدى الرجال للسيطرة على المواقع القيادية، وعندما يُفتح المجال أمام النساء، نجد أحيانًا أن من تتقدم لهذه المناصب تفتقر إلى التأهيل والخبرة، ما يؤدي إلى صورة مشوشة عن قدرة المرأة على القيادة. هذا الوضع يُعزز الخوف لدى النساء من التقدم ويجعل الكثير منهن يفضلن البقاء في الظل، بعيدًا عن الصفوف الأولى.”
وأوضحت معتوق أن مناهج التعليم والتدريب في الجنوب غالبًا ما تركز على تكوين النساء في مجالات محددة، مثل الصناعات التقليدية، التي لا تقدم الكثير من الفرص للتطوير القيادي أو التوسع في مجالات أخرى.
منى عبد المؤمن: لا قيادة دون دعم أسري.
الإعلامية منى عبد المؤمن أشارت إلى بُعد آخر من التحديات، يتمثل في التوفيق بين العمل والأسرة، وقالت:
“هناك ثقافة راسخة تعتبر المرأة مسؤولة أولًا عن الأسرة، وإذا نجحت في مجالها المهني، غالبًا ما يكون ذلك على حساب بيتها وأطفالها، ما يُشعرها بالذنب. غياب الدعم المنزلي وعدم توفر بنية تساعدها على التوفيق بين العمل والأسرة، يجعل الكثير من النساء يتراجعن عن طموحاتهن. العادات والتقاليد لا تزال ترى في المرأة موظفة منزلية لا قائدة أو صانعة قرار.”
وأضافت عبد المؤمن أن هذه المعيقات تشكل تحديًا كبيرًا أمام النساء العاملات في القطاع العام، حيث لا يجدن الدعم الكافي للتوازن بين متطلبات الحياة المهنية والأسرة. هذا التحدي لا يقتصر على النساء في الجنوب فقط، بل يمتد إلى المدن الكبرى أيضًا.
عائشة يوسف: الكفاءة موجودة، لكن الطموح غائب.
من جهتها، قالت عائشة يوسف، رئيسة مؤسسة “بيت فزان”، إن المشكلة لا تكمن في غياب الكفاءات، بل في غياب الطموح الجريء لدى كثير من النساء
موضحة: “تُحصِر كثير من النساء أنفسهن في وظائف تقليدية مثل الشؤون الاجتماعية أو شؤون المرأة، رغم أن لديهن الكفاءة لتولي وزارات سيادية مثل العدل أو الخارجية أو حتى الدفاع. في دول أخرى، مثل الإمارات، نجد النساء في الصفوف الأمامية للعمل الدبلوماسي، بينما في ليبيا، تظل المرأة غائبة لأن المجتمع لا يُحمّلها هذا الطموح، ولا هي تطمح له بالشكل الكافي.”
صبرية سعيد: الخوف من السقوط هو ما يمنع الصعود.
الناشطة صبرية سعيد شددت على أن البيئة الاجتماعية في ليبيا لا تتسامح مع الخطأ حين تكون المرأة هي الفاعلة
وقالت: “هناك تمييز على أساس الجنس، وقلة وعي لدى المجتمع بأهمية وجود النساء في المواقع السيادية.
هذا الخوف لا ينبع من نقص في القدرات، بل من غياب الحماية المجتمعية والدعم المؤسسي الذي يسمح للمرأة أن تخوض التجربة دون أن تُحاكم عند أول عثرة.”
وأكدت صبرية سعيد أن النساء يعانين من خوف مستمر من الفشل، وهو ما يحد من رغبتهن في التقدم إلى المناصب القيادية. هذا الخوف يُغذيّ تمييزًا اجتماعيًا موروثًا، حيث يُعتقد أن مكان المرأة التقليدي ليس في مراكز القرار، بل في المناصب التي لا تتطلب تحديات كبرى، مثل التعليم والرعاية الصحية.

خديجة بدر: تغيير ثقافي جذري هو الحل.
أما الناشطة الحقوقية خديجة بدر، المديرة التنفيذية لمؤسسة “بيت فزان”، فقد أكدت أن القدرة على القيادة ليست محصورة في جنس أو نوع، بل هي مسألة تتعلق بالفرص والظروف الاجتماعية والثقافية التي تتيح للفرد أن يحقق إمكاناته. قالت بدر: “لا زال المجتمع يُقيّم قدرات المرأة ضمن حدود ضيقة، محصورًا في مجالات كالتعليم والصحة فقط. رغم أن المرأة أثبتت كفاءتها في بعض المواقع التي أُتيحت لها، إلا أن الضغط الاجتماعي، والشك في قدرتها، يمنعانها من الوصول إلى مناصب صنع القرار. هي قادرة، لكن الظروف لا تتيح لها إثبات ذلك كما يجب.”
زمزم أحمد: الحصر في التعليم يعيق التوسع في مجالات القيادة
وفي ذات السياق، عبّرت الناشطة زمزم أحمد عن أسفها للوضع الراهن، الذي ترى فيه حصرًا مستمرًا للنساء في مجال التعليم فقط.
قالت: “يبدو وكأن المرأة خُلقت فقط للتعليم، وهذا النمط تم تكريسه من قبل المؤسسات ومن قبل النساء أنفسهن. كثير من النساء خضن تجارب صعبة، وتعرضن لضغوط كبيرة، لكن بدل أن تُحوّل هذه التجارب إلى نقطة انطلاق نحو التمكين، أصبحت تُستخدم كذريعة لإقصائهن. نحن بحاجة إلى وعي جديد يُعيد تعريف دور المرأة ويفتح أمامها المجال لتكون فاعلًا رئيسيًا في صناعة القرار.”
جميلة موسى : التغيير يبدأ من الاعتراف والتمكين.
قالت الناشطة المدنية جميلة موسى: “من أجل تحقيق التمكين الفعلي للمرأة، لا بد من إجراء تغييرات هيكلية في السياسات الحكومية وتوفير دعم مؤسسي حقيقي.
يجب أن يشمل هذا التغيير تعزيز فرص التدريب والتأهيل، وإعادة النظر في الأنظمة القانونية التي تحد من حرية الحركة النسائية، وكذلك فتح المجال أمام المرأة للمشاركة الفاعلة في مختلف المجالات، بما في ذلك المناصب القيادية العليا.”

وأضافت: “التمكين ليس هدفًا منفصلًا، بل هو جزء من عملية شاملة تهدف إلى بناء بيئة تتسم بالتعاون والدعم بين المؤسسات الحكومية والمجتمع المدني. إن مشاركة النساء في المناصب القيادية تتطلب ليس فقط تعديل التشريعات، بل أيضًا تغيير النظرة الاجتماعية للمرأة وقدراتها، بحيث يُحتفى بمهاراتها القيادية وتُشجع، مع محاربة الصور النمطية التي تحد من طموحاتها.”
وأشارت إلى أن: ” الاعتراف الكامل بدور المرأة في تحقيق السلام والتنمية المستدامة في ليبيا هو أمر ضروري ومُلحٌ. فعندما يُمنح هذا الدور المساحة الحقيقية في مؤسسات الدولة، ستُمَكّن النساء من تولي مسؤولياتهن بشكل كامل، مما سيساهم في تمكينهن من قيادة التغيير في ليبيا نحو مستقبل أكثر عدالة ومساواة.”
في الختام، يمكننا القول إن التحديات التي طرحتها شهادات النساء في الجنوب الليبي وبقية أنحاء البلاد تعكس واقعًا معقدًا يتطلب إصلاحًا شاملًا في العديد من المجالات. ورغم الكفاءات والإمكانات الكبيرة التي تمتلكها النساء في ليبيا، فإن العوامل الاجتماعية والثقافية تظل تشكل عائقًا أمام تمكينهن وصعودهن إلى مواقع القيادة.














