كتبه :: عمر عبدالدائم
حياةُ كلِّ إنسانٍ روايةٌ قائمةٌ بذاتها، ولكلٍّ منّا نصوصه الناقصة، وهل كانت النصوص الناقصة غير تلك الشخوص العابرة في حياتنا والتي لا نعرف بداياتها، وقد لا يتسنى لنا معرفة نهاياتها أيضاً، لتترك لنا في تلك الفراغات البيضاء ـ كما يقول الروائي إلياس فركوح في إحدى مقالاته ـ أن نُشكل حكاياتها كلٌّ بحسب خياله، وهنا يأتي دور الابداع في تحقيق اسطورته من خلال ما يرسم لهذه النصوص من أحداث و شخصيات تُكملها.
ولعلّ هذا ما فعلته الروائية الليبية عائشة الأصفر في روايتها الرابعة ” النصّ الناقص” والتي سأتعرض لها في هذه القراءة بشيء من التفصيل من حيث بيئة الرواية وشكلها وموضوعها.
البيئة
حين تناهى لمسمعي أن الاستاذة عائشة الأصفر بصدد ـ أو لعلها بدأت بالفعل ـ كتابة رواية جديدة، وأنّ أحداث هذه الرواية ستدور في مدينة سبها تملّكَني الخوف على الرواية وعلى الروائية معاُ، كان مصدر خوفي على الرواية ألا تكون البيئة التي اختارتها الكاتبة غنية بما يكفي لإنتاج عمل روائي نتطلع جميعاً إلى أن يشقّ طريقه للعالمية، فعائشة الأصفر جديرة بهذا الاستحقاق بعد أن قرأنا رواياتها الثلاث التي أصدرتها وهي على التوالي: “اللي قتل الكلب” و “خريجات قاريونس” و “اغتصاب محظية”.
فسبها ـ وهي مسقط رأسي ومكان نشأتي و محل اقامتي وسكني ـ ليست مدينة بالمعنى الذي تحمله ثقافة المدينة لُيُكتب فيها أدب المُدن، كما أنها ليست قرية أو واحة فيُكتب فيه أدب القُرى والواحات، وليست مجرد صحراء مترامية فيُكتب فيها أدب الصحراء، وهي ليست منطقة ساحلية ليُكتب فيها أدب البحر .. سبها ليست مما ذكرت فماذا ستكتب فيها عائشة الأصفر؟ وأيّ ثراء ستحمل هذه البيئة التي أراها أفقر من أن تجود بمواضيع روائية مهمة؟!!
أما الخوف على الروائية فكان مبعثه أنّ أي كبوة ستتعرض لها بسبب ضعف الرواية الوليدة سيكون لها الأثر السلبي الكبير في مسيرتها الإبداعية، لا سيما ونحن نعيش زمن اصطياد هذه الكبوات وقد لا يستطيع من يتعثر في زمن ما وفي ظروف معينة النهوض بسهولة من جديد..
لكن .. ما إن أهدت لي الاستاذة عائشة الأصفر المخطوط الأول للرواية حتى تبددت كل مخاوفي ليحل محلها شعورٌ بالغبطة والفرح، بل وبالدهشة والاعتزاز بهذا القلم وبهذه البيئة التي جادت بكل هذه المتناقضات من الشخصيات والمشاعر والأحاسيس كما جادت بكل هذا الخيال وهذا الموروث الثقافي والاجتماعي وهذا التنوع الفكري والماديالذي أتاح للكاتبة أن تلتقط منه موضوعها الروائي.
تبقى البيئة مسألة مهمة جداً في الرواية، بل يخيل لي أن الكاتب يقف طويلاً عند مسألة البيئة التي سيكتب فيها روايته، ويسأل نفسه كثيراً عن مدى ثراء تلك البيئة وخدمتها للعمل المراد إنجازه، فالرواية ليست مجرد حكايةخيالية بلا زمن ولا مكان، كما أنها ليست سرداً لواقعٍ يوميّ كيفما اتفق، إنها عمليةُ خلقٍونحتٍ لشخصيات قد يكون نصفها واقعي والنصف الآخر محض خيال، غير أنّ المكان (البيئة) يفرض وجوده في الرواية فرضاً على الكاتب فلا مندوحة له والحال هكذا إلا بالتعامل مع هذا المكان وفق فلسفة الكاتب و رؤاه ليوظّف ذلك المكان فيصير خادما للفكرة وللعمل الروائي بشكل عام.
وهذا ما فعلته عائشة الأصفر في روايتها “النصّ الناقص”، حيث جعلت من الجنوب الليبي بيئة تضجّ بالحركة (بغضّ النظر عما إذا كان ذلك الضجيج سلبياً أم ايجابياً)، فالأهم أنها حركت رواكدَ و سواكنَ وتكلمت عن المسكوت عنه، وباختصار هي قذفت بالحجر في تلك البركة الراكدة على خريطة الوطن.
كما أنها تناولت بالإضافة لذلك بيئةً أخرى تشكل امتداداً للبيئة الجنوب ـ ليبية، حيث نجحت نجاحاً مُبهراً في تصوير بيئةٍ لم تقطنها ولم ترها حتى، فتمكنت من أن تجعل القارئ يسافر مع “هيما” ذلك الأفريقي المُعدَم وهو يتنقل من قرية لأخرى ومن مدينة لغيرها في رحلة الوهم الكبير الذي يرسمه لهم البحر المتوسط وما وراءه في حال نجاتهم من قوارب الموت.
الشكل
من الناحية الشكلية سأتناول ـ باختصارٍ شديد ـ الرواية من حيث اللغة والأسلوب، حيث تتميز لغة عائشة الأصفر في كل أعمالها بالسلاسة وبقرب مفرداتها وصحة تراكيبها، وقد جاءت رواية “النصّ الناقص” مؤكدة لذلك، بل لعلّها تكون أكثر رواياتها سلاسة من حيث اللغة لا سيما في الحوارت، ولعلّها أرادت بذلك أن تعكس الأجواء العامة للرواية وشخصياتها، فجُلّ شخصيات الرواية بسيطة تكاد تكون أقرب للأمية منها إلى الطبقة المتعلمة، ومع ذلك يفوز القارئ خلال النصّ بشذرات فلسفية منثورة هنا وهناك ويبدو أن الفلسفة تتغلب على الكاتبة مهما حاولت الحدّ من استعمالها.
أمّا من ناحية الأسلوب فإنّأكثر ما يشدّ انتباه القارئ في رواية “النصّ الناقص” هو هذه الطريقة الذكية التي اتبعتها الكاتبة من حيث توزيع الرسائل التي كانت ترسلها “مريم” إلى “عامر” طيلة تواجدها في مصحة الأمراض العقلية، حيث كانت الكاتبة تنتقل بالقارئ من مشهد إلى مشهدٍ آخر دون أن يجد في ذلك انقطاعاً فجّاً في سير الرواية، وما أن يصل القارئ الرسالةَ الثالثةَ حتى يكون ذهنُه قد استوعب وتكيّف مع ازدواجية جميلة يظلّ فيها ينتظر تسلسل أحداث كلّ من رسائل “مريم” التي لا تصل وسرد “عامر” المتشظّي..
في الأسلوب أيضاً ينبغي الوقوف على (الميتافيزيقا) التي عوّلت عليها الكاتبة وأحسنت استخدامها، وإذا كانت كل أعمال عائشة الأصفر السابقة لم تخلُ من هذه الأداة فإنّ “النصّ الناقص” حظِيَ بنصيب الأسد مما وراء الطبيعة، ويكفي أن أشير هنا إلى أن أحد أهم شخصيات الرواية على الإطلاق “هيما” لم يكن سوى .. شبح .. أو .. غولة!!
سبق واستخدمت الكاتبة هذا الأسلوب من خلال” الروح” في روايتها الأولى ” اللي قتل الكلب”، ثُمّ “القَرِين” في روايتها “خريجات قاريونس”، ثمّ “شجرة الأصابع” في “اغتصاب محظية” وهاهي في رواية “النصّ الناقص” تجعل من ذلك “العنكبوت” المعلق على سقف غرفة المصحة العقلية بعينيه الحمراوين كائناً من عالمٍ مختلف بقدرات استثنائية، دون أن يصل القارئ لفهمه هل هو جنٌّ أم شبح أم حقيقة ماثلة..
أمّا “هيما” الذي يظهر ويختفي فإنّ الكاتبة أبدعت أيّما إبداع في خلق شخصيته بهذا التماهي العجيب بين الحقيقة والخيال، ويبدو أنّ فكرة “الفنتازيا” لم ولن تغادر عائشة الأصفر في كل أعمالها الروائية.
وفي الأسلوب أيضاً هناك سمة رافقت كل روايات عائشة الأصفر حتى الآن، وهي ما أسميتها في قراءة سابقة لاغتصاب محظية بــ”ازدواجية الرواية”، نجدها ايضاً الآن في “النصّ الناقص”، فحكاية “مريم” و”عامر” تكاد تكون للوهلة الأولى منفصلة عن حكاية “هيما” إلاّ أنّ الكاتبة ، وبمهارة فائقة، تنجح في ربط الحكايتين بشكل مذهل دون أن يشعر القارئ بأي نشاز في هذا الربط، وهذا لعمري إبداعٌ في حدّ ذاته.
الموضوع
في رواية “النصّ الناقص” تنتصر الكاتبة “عائشة الأصفر” لقضيتين مهمتين هما قضية الظلم الإجتماعي وقضية الظلم التاريخي أو السياسي.
ففي قضية الظلم الاجتماعي تطرح الكاتبة قضية إنسانة زُجَّ بها في مصحة للأمراض العقلية لتقضي فيها سنين عديدة حتى نهاية عمرها وتفشل كل محاولاتها لإيصال صوتها بأنها ليست مجنونة كما تفشل كلُّ محاولةٍ لها للهرب من هذا الواقع الذي وُضِعتْ فيه. فهل كانت الكاتبة تنتصر بهذا لصوت عاش بداخلها طويلاً؟
قد يقول قائل إنّ هذه القضية سبق تناولها من قَبْل في أعمالٍ مكتوبة ومرئية أيضاً فما الجديد فيها؟ وللإجابة على هذا أجد نفسي ـ للأمانة ـ مُلزماً بنشر ما أخبرتني به الكاتبة ذات يوم
قالت لي عائشة الأصفر :
“في سبعينيات القرن الماضي كنتُ ضمن مجموعة بحث اجتماعي في زيارة لقسم النساء بمصحة الأمراض العقلية، وهناك تَشَبّثتْ بي إحدى النزيلاتوهي تقول:
(لستُ مجنونة .. أنا عاقلة .. اخبريهم أنني لستُ مجنونة)
كنتُ حينها صغيرة السن، لم أعرف ماذا أفعل بهذه المناشدة، ولم أفعل شيئاً يومها.. غادرْنا .. بكيتُ بعدها كثيراً ..ولم تغادرني كلماتها أبداً .. أبداً لم تغادرني كلمات تلك المرأة، لقد سكنتني أكثر من أربعين سنة، وها أنا اليوم بهذه الرواية أحاول أن أقتصّ لها من مجتمعٍ ظالمٍ .. ومن سكوتي أيضاً.. وليتني أستطيع أكثر من ذلك”.
ربّاه .. أيّ وفاءٍ وأيّ التزام هذا؟
ما يميزّ طرح هذه القضية في رواية “النصّ الناقص” أنّ الروائية عاشت الحدث وإن كان مجرد ومضة، ثمّ سكنتها هذه القضية عُمراً بأسره، كانت طوال تلكم السنوات تكبر بداخلها وتتسعّ أبعاد القضية، حتى اختمرت روايةً في فكرها. إنّ مبدأ الإلتزام في الأدب قيل فيه ما قيل ولعلّ رواية “النصّ الناقص” تأتي كمثال لذلك الإلتزام في الأدب.
إنه التزام الكاتب بالانحياز لقضايا الإنسان، الانحياز للقيم الجمالية، للحب و السلام و العدل و الحرية.
وفي نفس السياق بالانتصارللقيم الانسانية العليا تتناول عائشة الأصفر في روايتها “النصّ الناقص” قضية هجرة الأفارقة نحو الشمال، حيث يواجهون في هذه الرحلة كمّاً هائلاً من المخاطر، ابتداءً بالموت عطشاً وجوعاً في الصحراء الكبرى، إلى الموت غرقاً في قوارب الموت حيث حيتان البحر المتوسط، مروراً بخطر عصابات تهريب البشر طوال تلك الرحلة.
إن هذه القضية ـ وإن صارت تجارة إعلامية في الفترة الأخيرة ـإلا أنّ الكاتبة تناولت جانبها الإنساني مشيرةً أكثر من مرة إلى أنّ من يُحرم اليوم من عبور المتوسط اقتيد اجداده يوماً ما مُصفّدين بالسلاسل مرغمين عبر نفس البحر ليكونوا عبيداً للسيد الأبيض الذي يحرمهم اليوم من أن تطأ أقدامهم أرضَه.
وبعد مكابدة طويلة يكتشف الشاب الأفريقي أن اوروبا التي شارف على الموت أكثر من مرة من أجل الوصول إليها (لا تستحق كل هذه المُعاناة).
بكلّ هذا الابداع استطاعت عائشة الأصفر أن تحيل النصّ الناقص في الواقع المُعاش إلى أسطورة في صفحات الرواية، لتثبت أنّ النقصان ـ كما يقول فركوح ـ وإن كان أحد الوجوه الثابتة في هذه الحياة، فإنّه أيضاً عنصر استفزاز بل هو مبعثُ تساؤلٍ دائم، ذلك التساؤل الخلاقالذي حفّز خيال عائشة الأصفر لتُتحفنا بهذه الرواية والتي أتمنى أن نراها مُترجَمةً للغات العالم المختلفة.
عائشة الأصفر التي أسست زهرات الكشافة بسبها وساهمت في قوافل البحث الاجتماعي بالجنوب وقادت الطائرة وحلّقت بها في سماءزلاّف ولم تبلغ العشرين من عمرها، هاهي تُحلّق اليوم في عالم الرواية المضمخة بالفلسفة والمنتصرة للقيم الجمالية، القيم الانسانية العليا في السلام والعدل و الحرية، حُقّ لنا أن نفتخر بها وأن نقول فيها:
طُوبى لِزلّاف هذا الفخرُ يكفينا
إذ أنبتتْ بين ذاك الطلحِ نسرينا
فحلّقتْ في السَّما تِيهاً وقد بلَغتْ
شأواً وما بلغتْ في العُمرِ عشرينا
هزّتْ إليها بجذعِ القَول فلسفةٌ
فاسّاقَطَ السِّحرُ في المعنى عراجينا
وعلّمتنا إذا كَلّتْ عزائمُنا
أنّ الطُّموحَ إمَامٌ للمُرِيدينا