- قصة قصيرة :: جود الفويرس
سارعت بنات الحاج عبد اللطيف في رصّ الأطباق في حافظات بلاستيكيّة، وبّخت نجاح أختها : ” بشوية بشويّة ستفي الطروف، هذا قلّاش لو مش منتبهة، يعني نسمة هواء بس تفترشه “. نجاح إلّي ناضت عليها المواجع؛لولا قصّة الكورونا هذه راهي عروس توا وهي إلي عازمة هلها عالفطور يا حسرة. تنهّدت، وصوت ألسنة الغطاء وهي تغلق الحافظة أيقظها من شرودها الطّويل. ذكّرتها أمّها أنّها لا بدّ من أن ترتدي البلوزة ( الفستكيّة إلي في كمامها لؤلي ) تلك التي لاحظت أنّها أعجبت محمد نسيبهم – وولد أختها – في آخر لقاء، وأن تحرص على تمرير مرود الكحل داكنًا ما بين جفنيها، منفذ وطريق، لغياب أهدابها الكحيلة. عزيزها محمّد، الفكرّة الوحيدة القادرة على تحويل نجاح إلى اللون الأحمر ودرجاته، نكاية في كلّ الشحوب. جاء صوت أخت نجاح الصّغرى من أقاصي المربوعة وهي تضع يدها في وسطها كمفعوصة أصيلة : ” بابا. علّت نبرتها: بابا. أعلى أكثر وبشيء من الحدّة : يا بابا نوض هيا حني واتيين . ردّ الحاج عبد اللطيف بعد شوطين شخير قائلًا : آه ؟، من إلي بينوض هذا ؟ أني أصلًا ما كنتش راقد، أني لابس من بكري وواتي نستنى فيكم . ركبَ أولاد الحاج سيّارتهم بعد أن وضعوا أدباشهم وأطباقهم كلّها، وما كتّب الله من كورونا للعدوى السّريعة، متّجهين إلى حوش نساباتهم. الحظر يبدا السّاعة ستة ويتم السّاعة ستة، ما فيش حل إلاّ إنهم يباتوا عند الناس إلي بيفطروا معاهم أوّل يوم رمضان . في المنزل الآخر وحين كانت السيّدة فاطمة تستعد لإستقبال أختها وبناتها، خصوصًا كنّتها المستقبلية نجاح، ركضت تضبضب هذا وترتّب ذاك، كان صوت زوجها يصدح من قعر البيت، ببركة القرآن وتلاوته البديعة. قالت مبتسمة وهي ترمي حبّات الحمص في طنجرة الشّربة ” جعنه صوتك ما يغيب ياسي “. على أعتاب الباب، كانت نجاح تعدّل من هندامها على كاميرا الهاتف الأماميّة، مسحت ما سال من الكحل في الشّموس الحارة، تأكدت أنّ حبّات اللؤلي في مكانها الصّحيح على الأكمام، حاولت أن تفرد بيدها ما تجعّد من قماش البلوزة نتيجة الجلوس طويلًا، وشاحي مساوي ؟، سألت أختها الواقفة على يمينها تمامًا دون أن تهتم بالرّد، وأخيرًا أمسكت ما بين يديها الصّحن الذي يحوي طبق محمّد المفضّل . كان كلّ شئ في مكانه، قلبها فقط، لم يعرف الثّبات وطرق باب الحديد المزخرف بإلحاح الشّوق كما لم يفعل خبر أو قبضة. هرع محمد لفتح الباب، بعد أن وضع كورة واحدة في فراغ العيّنة، وهي بأن يحوم حول الباب، لكي لا يفتحه غيره. وفي لحظة الطّرقة كان عند الباب أساسًا، لكنّه تآخر قليلًا، أراد التّصرّف بشكلٍ يوحي بأنّه” كول ” ولا يهمّه، هو الذي من وراء الباب، قرص فخذه وتنفّس عميقًا ليهدأ. على صوت الآذان، خشعت القلوب، وحسّت الأفواه والأفئدة بسلام الحليب البارد، أبيض بارد. دعو الله كثيرًا، حمدوه، واستغفروه. في المطبخ وتحت تأثير الأضواء الخافتة، سمّعت الثلّاجة المفتوحة للعروسين أحلى زغرودة . لأنّ الكنة تخدّرت للحظة حين اقتحم المكان محمّد، ناسية بأنّ تغلقها. وفيما كان غطاء برّاد الشّاي على اللهيب هائمًا يرقص مع فقاقيع الماء المغلي، والبخور يعترف للجمر، وفيما كان الزّهر في طعم الماء سائدًا، تواعد محمد ونجاح. همس بصوتٍ بالكاد سمعه هو نفسه : ” إن شاء الله رمضان الجاي في حوشنا “. ابتسمت، وهي تقرّب له الصّحن الذي يحتوي على أكبر قطعة من الكعكة . بعد ثلاثة أسابيع : تمّ الإمساك بعائلة الحاج عبد اللطيف وعائلة نسيبهم محمّد في أروقة مستشفى طرابلس، ونتائج التحليل لفايروس الكورونا للعائلتين (( موجبة )) . لماذا ؟، لأنّ الحظر يبدأ باكرًا، ولأنّه شهر التّزاور والبركة، ولأنّ الحكومة والفيروس والدنيا كلّها لا بد أن تفهم أنّه شهر ( التّزاور والبركة )، وهذا عرفنا وما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا .. يارب ! أنغيّره الآن ؟، ولأنّ الكورونا نظرية، ومؤامرة، وخرّافة غير حقيقية …. شدّوا حياشكم .