كتب :: السفير/ جمعه إبراهيم عامر رابطة الدبلوماسيين الليبيين
فى إطار ترتيبات مابعد الحرب العالمية الثانية التى انتهت بهزيمة دول المحور ، استولت قوات دول الحلفاء على المستعمرات الإيطالية فى أفريقيا ومنها أريتريا التي سلمت إدارتها إلى الحكومة البريطانية ، وإعمالاً للترتيبات التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1952 أقيم اتحاد فيدرالي بين أثيوبيا وأريتريا تتمتع فيه أريتريا بحكم ذاتي لها مجلس تشريعي وحكومة وعلم خاص ، لكن إمبراطور أثيوبيا هيلاسيلاسي ألغى في عام 1963ترتيبات الجمعية العامة وأعلن ضم أريتريا واعتبارها ولاية تابعة لإمبراطوريته، ويردد الأريتريون أن الإمبراطور اتخذ هذا القرار بتواطؤ مع القوى الاستعمارية . رفض الأريتريون قرار الضم وأعلنوا الثورة مطالبين بالاستقلال التام فنظموا أنفسهم في خلايا سرية مكونة من العمال والطلبة والمثقفين لقيادة النضال السياسي والعسكري فلاحقتهم القوات الأثيوبية وحاصرت تحركات قادة المعارضة في الداخل فهاجروا إلى الدول المجاورة ومنها واصلوا نضالهم السياسي دعماً للمقاومة في الداخل . أطيح فى عام 1974 بالنظام الإمبراطوري ، وتولى حكم أثيوبيا مجلس عسكري بقيادة العقيد منجستو هيلاماريام ،انتهج نظاما حسب على ماكان يعرف حينها بالكتلة الشيوعية ، استمر المجلس العسكري المعروف ” بالدرك ” في رفض المطالب الأريترية بالمطلق واستخدم قادته كل الوسائل لإجهاض أي تمرد أو ثورة بما فى ذلك استعمال السلاح. واجه نظام منغستو معارضة شديدة من قوى مختلفة وقوميات متعددة منها ، قومية التيجراي ممثلة في الجبهة الثورية الديمقراطية بقيادة ملس زيناوي . تلاقت أهداف هذه الجبهة مع أهداف الجبهة الشعبية لتحرير أريتريا بقيادة إسياسي أفورقي فاتفق قادة الجبهتين على النضال المشترك لإسقاط نظام ” الدرك ” فنجحوا في الإطاحة به بعد استيلاء عناصر الجبهتين على معظم المدن الأثيوبية ، ثم اجتاحت العاصمة أديس أبابا في مايو 1991 منهية بذلك نظام شمولي حكم أثيوبيا لما يقرب من العقدين من الزمن . خلال فترة المقاومة اتفق ملس زيناوي ، وإسياسي أفورقي على منح أريتريا الاستقلال بعد سقوط الرئيس منغستو ، وبعد وصول زيناوي إلى السلطة وافقت الحكومة الانتقالية التي شكلها على منح أريتريا حكماً ذاتيأ تقوده حكومة انتقالية بقيادة جبهة التحرير الأريترية ، ووافق البرلمان الأثيوبي الموالي للرئيس “زيناوي” على هذا الترتيب كما اتفقت الحكومتان الانتقاليتان على تشكيل لجنة مشتركة للنظر في أي مشكلة بين البلدين قد تظهر بعد استقلال أريتريا ، كما وافق حكام أثيوبيا الجدد على تنظيم استفتاء لسكان أريتريا ليقرروا إما البقاء مع أثيوبيا أو الاستقلال ، وجاءت النتيجة الرغبة العارمة في الاستقلال عن أثيوبيا ، فأعلن في أبريل 1993 عن قيام دولة أريتريا المستقلة فاعترفت بها الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية وغيرهما من المنظمات الإقليمية والدولية .
لم تسر العلاقات بين البلدين كما كان متوقعا ، فبعد الاستقلال دخلت أريتريا وأثيوبيا في خلافات اقتصادية ونزاع على ترسيم الحدود نجم عنها قطع العلاقات الدبلوماسية وشن حملات إعلامية شرسة وعمليات طرد متبادل لمواطني كلا البلدين وازداد الوضع تعقيداً بسبب فشل اللجنة المشتركة لترسيم الحدود إلى نتيجة مقبولة فاتفقت الحكومتان على تشكيل لجنة أخرى لرسم الحدود التي لم تكن واضحة عندما كانت أريتريا تحت الإدارة الأثيوبية ، والموجود آنذاك هو عبارة عن خط إداري يفصلها كمقاطعة عن بقية المقاطعات الأثيوبية . تركز مطلب الأريتريين على إعادة ترسيم الحدود إلى ماكانت عليه إبان فترة الاستعمار معترضين على التعديلات التي أدخلت عليه عام 1952 وتم بموجبها ضم مناطق ذات امتداد سكاني أريتري لأثيوبيا ومنها بلدة ” بادمي ” ، بذلت وساطات كثيرة لحل الخلاف سلمياً بما فيها إمكانية تبادل للأراضي لكنها لم تسفر عن نتيجة مرضية ، رفض الأثيوبيون التنازل عن جزء من الأرض تحت أي ظرف ، ومما زاد من حدة التوتر إحساس القيادة الأثيوبية بأن الرئيس إسياسي أفورقي يتطلع لفرض سيطرته على منطقة القرن الأفريقي على خلفية نزاعه مع اليمن وجيبوتي ، وهو مايعني أن المشكلة ليست نزاعا على ترسيم الحدود وإنما صراع لاستهداف نظام من قبل الآخر بهدف إسقاطه . فى مايو 1998 اندلع نزاع مسلح بين البلدين حين تحرك الجيش الأريتري لاستعادة بلدة بادمي فدخل في مواجهة مسلحة مع القوات الأثيوبية المرابطة بها ، وبادمي ليست قرية ذات أهمية استراتيجية ولاتتوفر بها موارد طبيعية كثيرة لدرجة يصل النزاع عليها إلى مواجهة عسكرية طاحنة ، وهنا قد يصدق القول إن النزاع على هذه القرية يشبه حالة شخصين أصلعين يتصارعان على امتلاك مشط .في البداية كانت الغلبة للأريتريين ثم انقلب ميزان القوة لصالح الأثيوبيين فأصبحت العاصمة أسمرا في مرمى مدافعهم وفرضوا حصارا جوياً على خصمهم لإجبار الحكومة الأريترية على فك الحصار البحري الذي طبقته عندما أغلقت ميناء عصب في وجه السفن الأثيوبية مما حرم أثيوبيا من أهم المنافذ البحرية للعالم عبر البحر الأحمر . أسفرت وساطات أفريقية ودولية عن تشكيل لجنة للوساطة اقترحت حلاً لخلاف الحدود بين البلدين على أساس الوثائق التاريخية و الخرائط المعتمدة والمعاهدات المبرمة خلال العهد الاستعماري بهدف تحديد لأي من البلدين ترجع تبعية المناطق المتنازع عليها ، كما وضعت اللجنة إطاراً لخطة سلام يتم الاتفاق عليها من خلال المفاوضات رفضت أريتريا المقترح لإجحافه في حقوقها فقررت حسم النزاع بالقوة فدخل البلدان من جديد في نزاع مسلح .
توقف القتال نتيجة لوساطات دولية وإقليمية ،ودخل البلدان في مفاوضات مباشرة أسفرت عن توقيع رئيس الحكومة الأثيوبية ملس زيناوي ورئيس دولة أريتريا إسياسي أفورقي في ديسمبر 2000على اتفاقية سلام عرفت باتفاقية الجزائر ، من أهم بنودها تشكيل لجنة محايدة لترسيم الحدود يكون مقرها مدينة لاهاي بهولندا ، في أبريل 2002 أصدرت اللجنة حكمها النهائي . ومن ضمن ما نص عليه ضم مساحات من الأراضي لكل طرف ، أما قرية بادامي سبب النزاع فضمت لأريتريا . في البداية قبل الطرفان بالحكم وأكدت أريتريا على أنه قرار بات ملزما لكن حكومة ملس زيناوي ومن بعده حكومة الرئيس هيلي ماريام ديسالين ، رفضتا تنفيذه فاستمر الحال كما هو عليه علاقات دبلوماسية مقطوعة وحملات إعلامية متبادلة وحشود عسكرية على الحدود المشتركة . مع مرور الزمن أظهرت المؤشرات أن أريتريا لن تنتظر إلى ما لانهاية ، واستبعد المتابعون والمحللون أن يقبل الأريتريون بالمطالب الأثيوبية من قبيل إعادة النظر في قرار اللجنة المستقلة لترسيم الحدود بين البلدين بحيث تراعى فيه الحقائق الجغرافية والديمغرافية وكان المرجح هو المزيد من التوتر السياسي والتصعيد العسكري ، لكن حدث تطور هام لم يكن متوقعاً بهذه السرعة .وللحديث بقية السفير/ جمعه إبراهيم عامر رابطة الدبلوماسيين الليبيين