- محمد مسعود
“كل الشوارع لها حكايات قديمة.. كل الأرصفة تربطنا بمواقف حياتية عدة.. كل أشجار الحدائق والمقاعد تنحت لنا ذكريات عتيقة، وكل الميادين تروى لنا قصصا وعناوين من عبق الماضي.. الوجوه و الأسماء و كذلك الناس والقلوب هي من تتغير بفعل الزمن ، أما الأماكن فهي التي تشكل أناقة المدن والحضارات في كل بلدان العالم…” هكذا أخبرت صاحب المقهى بعد أن ناولني كوب القهوة وهو يبتسم.. وضعت ملعقة واحدة من السكر، حركت الملعقة في القهوة وابتسمت لرواد المقهى وخرجت. صرت أمشي وأفكر في شكل الماضي، وفي مصادر التاريخ ومدى صدقها، وقفت لبرهة نظرت إلى المباني والشارع المؤدي إلى الميدان، تفحصت الأرصفة، ومدى الخراب الذي حلّ بمنطقة وسط البلاد بمدينة بنغازي بعد حرب خاضتها المدينة.. دمرت فيها مباني بالأرض وشوهت أخرى وجعلتها مجرد أنقاض. توالت الساعات، وتابعت السير كنت على موعد مع صديق قديم ولكنه لم يأتِ، صرت أتابع السير إلى أن ظهر أمامي ميدان الشجرة.. فهو أحد أهم المعالم والميادين الرئيسية والتاريخية في مدينة بنغازي ويقع في وسط المدينة ويربط بين شارعَيْ الاستقلال، وعمرو بن العاص. وقفت عند حافة الميدان المطل على شارع الاستقلال، كان المكان مزدحماً بالمارة والناس من الأطفال والشيوخ والرجال، صرت أراقب التفاصيل كعادة نجيب محفوظ”، أشاهد حركاتهم، ملامحهم، و وجوههم وتجاعيدهم. هناك من يجلس ويفكر لوحده و يتذكر الماضي ، وهناك من يجلس مع أصدقائه ويسرد القصص والمواقف، وهناك من يتابع حركة السيارات والمباني، وهناك من يتحسر لما حدث لها وإلى ما آلت إليه من دمار. و كما هو الحال جلست على المقعد الوحيد الفارغ بجانب عجوز كبير، تفحصته جيداً فكان يبدو على ملامحه الإرهاق والتعب، كان شاردا ينظر إلى زوايا الميدان. وضعت كوب قهوتي البارد، وظلت عيني تنظر إلى نوافذ المباني التي دمرت جراء الحرب فأسأل نفسي ما الذي أصابها؟ نظرت إلى سُمْك الجدران وتجاعيدها بعمق وحزن إلى أن سمعت العجوز يطلق تنهيدة من آاه ،، آاه، عدلت جلستي وظلت عيني تتابع فرحة الأطفال وهم يلعبون ويمرحون على حافة النافورة فعاد العجوز ليطلق تنهيدة مرة أخرى : ” آاه .. آاه ..” ثم استرسلا في كلام – “….. عليك أيام حلوة.. أيام الطفولة.. وأيام الزمن الجميل.. وأيام كنا صغار.. نلعبوا في كل أرجاء المكان وعاصرنا ساحة روما .. ” ساحة روما !! انتابني الفضول ولكنني لم أستطع مقاطعة هموم العجوز وصرت أنصت إليه فتابع الحديث قائلا: – “… كنا نهرب من آبائنا ونركض خلف عربات الأحصنة، كنا نعبر الأرصفة دون ملل إلى أن نصل الساحة، نلعب الكرة، ثم نلعب على النافورة أو نجلس كالمجانين على حوض الشجرة التي تتوسط الميدان الآن..” . عدلت جلستي مرة أخرى وفي فضول فتحت عيني جيدا، واسترسل العجوز قائلا : – “…كانت أياما جميلة رغم بؤسها ، كانت لنا ألعابنا الخاصة وقصصنا الطفولية ، عليك زمان، تغير كل شيء الآن.. تغيرت الوجوه والقلوب كذلك، وأصبحت جدران المكان شاهد عيان على كل تلك الذكريات والمواقف والألعاب في طفولتي.. عليك أيام حلوة يا ابني”. ارتبكت كثيرا ولم أجد جواباً كافياً أو كلمات تعبر عن أسى العجوز، فهو يحمل كلاماً كثيراً، وتثقله هموماً وحياته ما هي إلا خيط رفيع لم ينقطع إلى الآن . فجأة نهض العجوز من المقعد وقال: – “.. أرجو ا٦ن تزرع في طريقك الأمل دائماً يا صغيري” مضى العجوز.. وظل ذهني يفكر في ساحة روما، وذكريات ذلك العجوز إلى أن جاء إليّ (سي علي الغدامسي) وجلس على نفس المقعد . (سي علي الغدامسي) أحد سكان الحي وهو ممثل تلفزيوني ، جلس على المقعد بعد أن رحل العجوز عن المكان، فخطر لي أن أسأله عن ميدان الشجرة فقال مسترسلا و كأنه ينتظر هذا السؤال: “كان يعرف باسم ( بيازا أدميراليوكاني )، وما بعد سنة الاستقلال أصبح يعرف باسم ( ميدان عمرطوسون ) وأما في العقود الأخيرة فقد تحول اسم الميدان إلى ما يعرف الآن باسم (ميدان الشجرة )، نسبة للشجرة الواقعة على جزيرة الدوران والتي تتوسط الميدان. نظرت إلى ( سي علي الغدامسي) جيداً، قلت له: “شكراً على هذه المعلومات القيمة”…. ثم نظرت إلى الشمس وإلى الناس و المباني وسُمْك الجدران والشوارع ، وأيقنت بأن الأسماء والوجوه و كذلك القلوب تتغير وتبقى القصص عالقة في خزائن الذاكرة . يعد ميدان الشجرة أحد الميادين الرئيسية في مدينة بنغازي و كانت تتوسطه شجرة أرز كبيرة تزين في أوقات الاحتفالات و يطل على الميدان مبنى المؤسسة الوطنية للنفط و فرع مصرف الوحدة و قريبا منه ثلاثة مبانٍ إدارية حكومية وموقف عمومي للسيارات وحديقة عامة و ظل الميدان يحتفظ بعمارة قلة من مبانيه المميزة حتى الحرب التي اندلعت في بنغازي ما بين عامي 2014 ــ 2017 م ، و التي نتج عنها دمار هائل في المباني التاريخية وبعض الممتلكات . شهد ميدان الشجرة العديد من الأحداث كغيره من الأماكن بمنطقة وسط البلاد بمدينة بنغازي ، فقد كان أحد أهم الأماكن التي احتضنت بداية أحداث فبراير عام 2011 م ، و أيضا كان نقطة الانطلاق للمظاهرات التي تدعو إلى تصحيح مسار ثورة فبراير عام 2012 م ، و بعد تحرير بنغازي بدأت الحياة تعود تدريجيا إليه ، و أصبح محور البلاد في إقامة الاحتفالات و الأنشطة الثقافية بعد إعادة زرع الشجرة و ترميم ما حوله.