- سعاد سالم
زي الناس في روتردام!
هل رأيت الجدار ؟
تفصل الأسوار بين بيوت الناس وحدائقهم ضمن قوانين المكان، لكن من لاحظ الأسوار غير المرئية التي تفصل بين الناس؟ تصنع هذه الجدران والأسوار والسيسان والحوائط التصنيفات والأحكام التي يطلقها البشر على بعضهم البعض ،أعني كأن هذه الأسوار غير المرئية تتخذ طبيعة الزجاج ، بما له من خاصية الشف والفصل معا فتنمو أسوار الزجاج تلك بتواتر سريع وبهذا يوحدنا ونحن المتفرقون الخوف كل على زجاجه من الكسر ..ويبدو وعبر الزمن يتكسر في البقعة الواحدة مازجة أرواح شعوب متنوعة،سيعمل الوقت على أن يصنع منها روح شعب جديد له جدرانه اللامرئية الخاصة ،أو هكذا اتصور .
شارع بن عاشور زمان ..
لا أعتقد أنني قابلت أم عزة في أي مناسبة في شارعنا، ولم أعرف قط اسم صاحب المتجر على الطريق الرئيسية ، والذي كلما احتاجت أمي غرضا معينا منه أرسلتني إليه ،إلى دكان الفلسطيني ،أما وراء فناء بيتنا مباشرة كان دكان عمي الياس ،وفي سوق المثلث دكان عمي بلقاسم ، فيما يقع بمحاذاته دكان التونسي، هل فهمتم قصدي ؟ إذن قررت لاحقا ولاحقا هاذى استغرقت سنوات طويلة ، أن الفلسطيني صاحب الدكان هو والد عزة، تسكن عزة مع عائلتها في الطابق الأول من مبنى لا يفصل بيتنا عنه سوى بناية واحدة ، يتطلب أمر دعوتها وعائلتها أو ارسال قِعد من الأعراس الكثيرة التي شهدها شارعنا أو من سوابيع الولادات الجديدة بما فيها التي في بيتنا ،فقط بضعة أمتار وعن بيوت بعض الجيران ليس أكثر من عشر خطوات ،ولكن ذلك لم يحصل أبدا كما وصفت لي عزة فيما بعد ، في الحقيقة لم أعرف أننا لم ندعوهم أبدا ، بل لم ألحظ ، فهم لم يخطروا على بالي ، لكن حتى بعد ماسمعته لم تصبح عزة وعائلتها جيران نلتقيهم في المناسبات ، كما وأنني حتى هذه اللحظة لم أعرف وربما لا أتذكر اسم والدها فقد كان الفلسطيني صاحب الدكان والعيننن الفاتحتين أو ربما كان والد عائلة أخرى ، ورأيت وقتها كما صغار الجيران أن الفلسطيني اسم كاف ،في المرحلة الثانوية ارتبطت بصداقات مع طالبات من مصر ،لتشابهي معهن في المزاج وشكلنا مجموعة من خمسة بنات أنا الليبية الوحيدة بينهن ،ثم صارت هذه المجموعة تكبر بانضمام صديقات الصديقات وهن بالضرورة من نفس الجنسية وطبعا منفتحين على آخرين مثلهم تفصلهم عن جيرانهم الأسوار الزجاجية وللمصادفة كانت عزة ،وهكذا دخلت عزة الفلسطينية من الباب الخلفي لدائرتي عن طريق من لم يسكنّ في شارعنا قط، ووقتها كان فات آوان السؤال عن كنيتها وإن كان لذلك الفلسطيني اسم .
شارع موليير الآن ..
أنا الآن من سكان روتردام ، في شارع موليير الذي يقطنه أناس من خلفيات مختلفة ، الهولنديون في المبنى الذي أسكنه أو في الجهة المقابلة و زملاء العمل جميعهم محاطون بنفس الجدران التي بنيناها من دون وعي أو بوعي بيننا وبين عزة وعائلتها في شارعنا القديم .
الجيران ودودون مع المختلفين والغرباء كما كانوا الناس في بن عاشور ،لكن لن تدخل العائلة لن تحضر مناسباتهم الخاصة ،وستكون أجنبيا في أعيادهم الوطنية وفي تقاليدهم الاجتماعية وستكون غريبا على طقسهم و عاداتهم وطعامهم ونكاتهم وعن مشاعرهم المنضبطة ،وبالطبع لن تفهم أهمية الأجندة (مذكرة مواعيد لكل شيء) وهي الهوية الحقيقية للهولنديين كما المبكبكة لليبيين ..ولهذا و اجتماعيا أنا فعليا عزة في شارع موليير .
زيّ الناس ..
الهولنديون في روتردام أو في أي مدينة أخرى وكما في أي مدينة ليبية ، لديهم مايكفي من الشعور بأفضليتهم على الأجانب، بل وعلى من نِصفه أجنبي أي الذين أمهاتهم أو آبائهم أجانب ، حتى أنهم لديهم مفردة تشبه مفردة منتشرة مؤخرا في طرابلس وهي (الحقانين )، والتي يصنفها الكثير من الهولنديين الحقانيين على أنها مفردة غير لائقة وترقى إلى مستوى التمييز ،ولكن مشاعر التفوق تلك لم تمنع الصداقات والزواج والعلاقات المقبولة والمقبولة على مضض ،تماما كما في ليبيا ، لهذا الأسوار اللامرئية والتي أشعرتني بعدما قالته عزة بالدهشة وحتى ببعض الخجل تقول بوضوح إننا زيّنا زيّ الناس و كم هو المزاج الاجتماعي شديد الشبه بين شارع بن عاشور وشارع موليير ،وذلك بتسليم واقعي لخوف الناس في كل مكان من فقدان هويتهم الخاصة..أي روحهم كشعب ..غير أنه ودائما ثمة من تجرأ وكسر زجاجه ولهم هم فقط الفضل في الفسيفساء من الانماط المعيشية الجديدة وانبعات روح جديدة لشعوب جديدة يمكن اكتشافها عبر نستولوجيا أو موجة حنين تتصاعد حيثما اهتز مكان من العالم بالحروب أو بالهجرات وقبل هذا وذاك شبكات التواصل الاجتماعي التي عززت الخوف الغريزي من التغير والتغيير ،غير أنه يحدث رغما عن الجميع.
هل أقول ذلك من خلف سوري الخاص ؟ ربما ! فلكل منا جداره الزجاجي الذي لايراه ،فقد كان لعزة وعائلتها وللفلسطيني على الشارع الرئيس زجاجهم الذي لم يروه و رأيناه .