بقلم :: ابوبكر عبد الرحمن
كنت، وكعادة كل يوم، بعدما يتصاعد دخان السيجارة مشكلا غيومه عبر النوافذ، والقلق، كل شقة ومنزل مجاور،أستمع بين مفارق طريقها لعواء الذئاب الذي يخاطب القمر، ونباح أكثر من عشرين كلباً في الشوارع الخالية، خلو البحر من المراكب، وهي تشتم بعضها بلغتها واللعاب يسيل عبر أنيابها وتنتش لحومها مخلفة قضمات في أجسادها وفجوات حمراء بمعارك دامية وشرسة،كنت أراقبها و أستمتع بمشاهدتها يقطع بعضها البعض وينتف أوبار بعضها ونزيف الدم يقطر من الجروح واستمرت في ذلك من أجل بقايا عظمة بالية نخرها السوس واتخذتها الحشرات الصغيرة ملجأ لها من الشتاء , كانت ألوانها مختلفة منها البنيٌ والترابيٌ، والأبيض والأسود الكحليٌ، والكاجويٌ القاتم، والبنيٌ المعتدل، وكان معظمها ملطخاً بزيوت، وشحوم السيارات العاطلة، لأنها غالبا ماكانت تقضي الوقت في الورش الميكانيكية، كانت تعيش نظاما مجتمعياً دقيقاً , كنت أصنفها حسب تلك الألوان إلى عشائر وأصول مختلفة ، فمثلا كان اللون البنيٌ القاتم تعود جذوره إلى صحراء الجنوب القاحلة، إذا فهو يمثل الكلب الفزٌاني وكذا الكلب الأسود، وأما اللون الأبيض والكاجويٌ القاتم، فتعود جذوره إلى الساحل الغربي للبلاد، فكان يمثل الكلب الغرباويٌ، وكذا اللون الترابيٌ والبنيٌ المعتدل ويعود أصله إلى جهة شرق البلاد، فكان يمثل الكلب الشرقاويٌ، وهكذا قسمت كل لون من الكلاب على مناطق عيشها وجذورها وأصول كل واحد منها. كان لكل عواء من أي كلب يفغر فاه إلى الهواء يحيل صوته إلى صدى مرير، ماعاد زعيم القطيع قوي البنية والقادر على فض أي نزاع فيما شجر بين تلك المكونات الاجتماعية الحية.
أليس كل حيٌ ينظم مسيرة حياته ولو كانت حسب الغريزة ؟.
كان الحكم للقوي الذي يأكل الضعيف، وكان لصاحب النباح العالي الأفضلية في قطيعه الذي ينتمي له، كانت أيضا هنالك أحزاب ومجالس، والعجيب أنه كان هناك مجلس شيوخ ونقابات، ومؤتمر وطني، وبرلمانات، واتفاقات على صخرة الوادي، وتحالفات ومناطق صيد ونفوذ، بالمختصر لقد كان النظام معتدلاً , الكلب الكبير كان يعطف على الكلاب الصغيرة، بعض النتشات والعضات تكفي للتأديب فحسب، وكذا كان الكلب الصغير يحترم ويقدر الكبير، استمرت حياة الكلاب منذ قديم الزمان وإلى أيامنا هذه على هذا النحو الملحوظ، وقد ارتفع شأنها في أزمان خلت إلى أن صارت آلهة عند الفراعنة المصريين القدامى، واستمرت المطاحنات والنباح والصياح، واستمرت معه النزالات الكلبية والمشاحنات، بل لقد استمر أعضاء البرلمان الكلبي النٌبٌاح وأعضاء الاتفاق الكلبي السياسيين، في كل ليلة من الليالي عقد الاجتماعات، وكانت المصالحات الكلبية تساهم في تهدئة الأوضاع وإعادة السلام والأمان في الشارع بينها.. صحيح أنها حيوانات تعيش بغريزتها الحيوانية المفترسة والقاتلة، إلا أنها عندما يحين طلوع الفجر، تضم بعضها بعضاً وتواسي جراحها وتنسى كل خلافاتها وتعود إلى أوكارها مطمئنة راضية ومرضية في قطعانها المجتمعية، وتفعل ما لم يفعله إنسان عاقل ليبي، أقصد أنه كان. بعد أن قامت الثورة والثوار، و الضفادع والسمندرات، وفي اليوم الذي أطيح فيه بالصورة المزيٌفة تسمي جزافاً بالنظام وبآخر تسعة وستين عاماً تمثل وجهه الحقيقي، كانت فرقة “الفرسان” قد تشكلت منذ ثلاثة أشهر، في اليوم نفسه، ومنذ ذلك الوقت و المجندون الجدد يستنفرون للحروب ، للمعارك والمشاجرات (مع أنه مصطلح صبيانى يطلق على لعب الأطفال). أما منظمتهم فلم يكن قد أطلق عليها اسم بعد ولازال بعد أيضاً، ليس ذلك لنقص في المقترحات، ولكن كان يحق لكل شخص الاقتراحات، فكل شخص كان يحمل فكرته الخاصة حول الموضوع، واشتدت نزالات الثأر والسباحة في بحر من الدماء لغاية الوصول للشرف والمبادئ، وجرائم الخطف والقتل وأحزان الرأي العام ..ثم مصرع أحد أفراد كتيبة، وإصابة ضابط بجرح، الحريق، المجزرة، المذبحة، جدول يتكون من دم شرقاوي، ومن دم فزاني، ومن دم غرباوي، امتزجت في غضب عارم ’ زغاريت وبكاء وعويل تحمله رياح خريفية جافة، وآلاف قتلوا بحد السيف في سرت هذه واحدة، وأثخنوا بالجراح، وذبحو، وصرعوا برصاص البنادق، وأحرقوا بالنيران..وكل ذلك لكي يستطيع ريفي أن يقول ، غداً، لأحد السياح : (سيدي، أعطني ثلاثة قروش، إذا أحببت أن أشرح لك المسألة، مسألة “واترلو”).