- الاديبة شريفة السيد
- ها هنا نص بقلم الشاعر الكبير فايز ابو جيش ، نص يصرخ صراخا مدويا، ويئن أنينا محبوسا، وينزف نزفا مدرارا لا يتوقف، ويثور ثورة الشعر ،، جراء القصف والقتل والتهجير والتدمير الذي يحدث في غـ …. ـز …ة ، في محاولة مستميتة لإيقاظ الضمير العربي النائم، وإنقاذ الإنسان الذي أصبح حيا في عِداد الأموات.
- نَصٌ يبكي وجعا، ويتأوه ألما، ويقف في وجه الغاصب المعتدي وقفة الصقر المناضل، ويطلق طلقاته النارية في وجه المتخاذلين المتواطئين، لكي يكشف حقيقتهم، ويعري عارهم، من خلال أبيات تستدعي مفردات الحزن والوجع والآهات وصور فنية غاية في الأناقة.
- فهاهو العيد قد أتىٰ ولا يملك الأب أن يشتري لصغيرته ملابس العيد… ولا يمتلك ما يبيعه ليشتري فستانها، فيعرض دمه للبيع ويعرض قلبه للبيع ثم يعرض وجعه للبيع.. !!! حيث لا أحد يطيّب خاطرَه لكي يطيب هو خاطرَ صغيرته.
- أي زمن هذا وأية قسوة وأية عنجهية، وأي ظلم ، وأي تخاذل ؟؟ أي وطن هذا الذي يوجد به شعب في حاجة أخيه ، وهو يتفرج عليه لا يمد له يد المساعدة.؟! أي وطن هذا الذي نسِيَ أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه..؟! وأنه لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.. بل كيف ينام وجاره جائع. !!!
- النص يرفض خيانة الأخ لأخيه، ويفضح سياسة التجويع والذل والإجبار على الانكسار، وإنكار ملكية الأرض، وحرية الفرد، ويرفض في شكل درامي تلك الحرب الفاشية والاستعمار والنازية وآثارها القذرة، من خلال الديالوج الدرامي. كأحد مرادفات البلاغة في الشعر العربي،
- قصيدة أم مسرحية درامية .؟
- ______________________
- وبجانب توفر الزمان( اللحظة الراهنة في عام 2024) والمكان (مسرح الشمس/الفضاء الفلسطيني) كعناصر مفهومة ضمنيا، وتوفر الشخصيات؛ فقد كشف نص أبو جيش عن مدى استطاعة الشاعر توظيف الحوار الدرامي في قصيدته توظيفا عضويا..
- فالقصيدة الدرامية هي شكل متطور من أشكال الخطاب الشعري، ولا تزال تتصدر جماليات الشعر العربي، مؤكدة أن الشاعر هنا يعرف من أين تؤكل الكتف.
- صحيح أن الحوار الدرامي مرتبطٌ أساسا بالقصة والرواية والمسرح، لكن هنا على مسرح قصيدة فايز أبو جيش:
- أنا رأيت :
- _ البطل يقف على يمين خشبة المسرح ،
- _ والمحتل يقف على يسار خشبة المسرح ،
- _ فهل رأيتم صغيرة البطل، وأين تقف باكية.؟
- ثم رأيت :
- _ الجمهور/العرب يجلس/ون في قااعة المسرح.
- متفرجين كما يليق بهم _لا مشاهدين_فهم بالفعل متفرجون و(المسرح) تناسبه (الفُرجة).
- لقد رأيت :
- _ ملامح كل الشخصيات واضحة بلا أقنعة، حتى الطفلة وطلباتها البسيطة، ودموعها التي لم تجف،
- المسرح يا سادة، فن الحياة وفن الممكن والقول، فيه تكمن البراعة وتوثيق المواقف بشتى أنواعها، يختزل الحياة بسخرياتها وحلوها ومرها، يكشف الإنسان أمام نفسه دائما..
- .
- استخدم الشاعر على مسرح الأحداث نوعين من الحوار:
- _ ( الحوار الداخلي/المنولوج بينه وبين نفسه)
- و
- _ (الحوار الخارجي/الديالوج الموجه إلى العدو والمتواطئين معه)
- من خلال طلقات سريعة متتابعة، وانتقالات أسرع وبمنتهى الرشاقة، لا نشعر فيها بالملل، ولا بالاضطراب،
- أبٌ مفوه يعرضُ مشكلتَه أمام العالم. يستعرض قضيته مع ابنته قُبيل العيد بلحظات، حيث تستعد الدنيا للفرح، بينما هو وابنته في أزمة حقيقية، (أزمة ملابس العيد) وهو لا حول له ولا قوة،
- ولكنه يخرج من الذات إلى العام فيستعرض المهزلة التي وقعت فيها بلادُه كلها عن ظهر قلب. (لأن الحكاية ليست فستان العيد فحسب) وإنما هي مسألة حياة أو موت شعب بأكمله. رخُصَ فيه الإنسان بشكل يدعو للاشمئزاز.
- بهذين النوعين من الحوار نجح الشاعر في التوظيف الجزئي للحوار، كما نجح في التوظيف الكلي للقصيدة الحوارية، مؤكدا أن الحوار الدرامي لو كان ذا صلة بالتفاعل مع الأجناس الأدبية المختلفة كالقصة والرواية والمسرح؛ فإنه في النص الشعري_وتحديدا هنا_كان ضروريا وهاما، لا مجرد زركشة أدبية؛ بل إنه يصبغ المشهد الدرامي بصبغة واقعية، من خلال ما (حدث بالفعل) وبلسان الشخصيات نفسها، مما أعطى الخطاب الشعري بُعدا موضوعيا، مبتعدا عن الغنائية ومقتربا من معاناة النفس البشرية.
- هذا الجو المسرحي في النص_كما أراه أنا_ يتطابق تماما مع ما يحدث في غ..ززز…ة على وجه التحديد كمسرحية عبثية من قبل أطراف متعددة (تطابق المقال لمقتضى الحال) لذا كان لزاما على الشاعر اختيار الحوار الدرامي المسرحي والمنولوج بوجهيه السابق ذكرهما، والذي أتصوره عملا مسرحيا من فصلين:
- _ الفصل الأول:
- تمثله الأبيات من الأول للرابع/ديالوج داخلي حوار مع النفس
- _ والفصل الثاني:
- تمثله الأبيات من الخامس للختام/ حوار مع العدو والصامتين من العرب، ويتنقل بينهما الشاعر برشاقة منقطعة النظير.
- …..
- رمزية فستان العيد
- _______________
- قد يرى البعض أنه موضوع يوغل في الذاتية من قِبل البطل كأب فلـ… سـ…طـ يني، يحكي مأساته مع طفلته، لكن فايز ابو جيش_العربي الانتماء_ استطاع أن يتلبس شخصية البطل، وأن يجيد رسم الشخصيات، واستحضار مشاعرها، حتى لكأنك تشعر بأنفاس كل منهم في هذا الجو الخانق، وماذا يرتدون من ملابس، وتتخيل كيف يجلسون، وكيف يسمعونه، وردود أفعالهم، فيما يكون البطل/الشاعر/الأب هو الوحيد الذي يقف رافعا كفيه شاخصا ذراعيه لأعلى، وجهه يميل إلى الزرقة باحمرار، عيناه باتساع السماء، مغرورقتين بالدموع، صوته أعلى من نفير الحرب وأصوات القنابل، بينما العدو يضحك ضحكات مستفزة، والمتفرجون صامتون.
- ففستان العيد جزء من تلك الأوجاع التي يعاني منها اخوتنا هناك على مرأى ومسمع من الجميع.
- .
- وهنا يصبح الفستان رمزا ، ويظل الشاعر/الأب/البطل باحثا عن غطاء لوطنه العاري تماما أمام العالم.
- ….
- الروِيّ ودلالات حرف الميم الساكنة
- ___________________________
- لن أتحدث عن الوزن الشعري والقالب الكلاسيكي الذي استطاع احتواء الكثير من الأدوات الفنية باقتدار، بقدر ما أتناول تميز الشاعر في انتقاء رَوِيِّ القافية.
- فاختيار الميم الساكنة له دلالات كثيرة ، منها السكون العربي والصمت المذهل، والسكوت المروع.
- الميم الساكنة هنا جاءت خير داعم للقضية، معبرة عن حجر أصم ، يُسمى الوطن العربي،
- .
- فالميم في علم الأصوات/الفونيم:
- _________________________
- “صوت مجهور متوسط الشدة والرخاوة. ومن دلالاته الحدّة والقطع والاضطراب كما يدل على الخنوع والضعف”.. وأضيفُ من عندياتي؛ ( الانهزام وتعاظم المأساة، وضخامة المصيبة) كلٌ بحسب السياق،
- ويبدو ذلك جليا في مفردات: ( قلم ، الألم، القيم، الأمم، الصنم، الخيم، العجم )
- وقد ازدادت قيمة الميم كما زاد ثراؤها من كل تركيب لغوي جاءت في آخره ميم مثل:
- (( إذا اشتد الألم، وخذلان القيم، أرخص من قلم، تذكرها الأمم، تقديس الصنم، في تلك الخيم، تحت أقدام العجم ، كلا، ولا، ما، إنْ، ولنٰ، لمّا، ولمْ))
- فالقارئ الحصيف يستطيع أن يستشعر ضخامة المصيبة، وتعاظم القضية ، والانهزامية والضعف ومدى استفحال أساليب التجويع والإذلال، وكأنه
- (فعل فاضح في الطريق العام).
- …
- يمكنني الآن أن أُعِد الشاعر فايز أبو جيش ممن برعوا في هذا الفن الدرامي شعرا. أو القصيدة الدرامية.
- لقد ذهب إلى هذا الفن بوعي إنساني، باحثا ومتأملا، ومستثمرا مخيلته الجامحة الخصبة في صياغة وتشكيل مفرداته وعناصره بعيدًا عن ذلك المط والتطويل، فما يقوله عملٌ مسرحيٌ ضخمٌ في ساعة أو أكثر قاله أبو جيش في أقل من 15 بيتا من الشعر..
- ويمكنني أن أسميه (الحكاء شعرا) ، المعبر عن هموم الإنسان، غير المنفصل عن واقعه المرعب، مطوعا كل العناصر زمنيا لكي تخاطب اللحظة الراهنة، وتتفاعل مع قضايا العصر. عرضا وشجبا وتنديدا واستنكارا، تأكيدا على دور الشاعر وإحساسه تجاه المجتمع. وعدم وقوفه مكتوف الأيدي. أمام أزماته. وإثباتا لدور الفن، والانحياز لقضية الفن من أجل المجتمع، لا الفن من أجل الفن.
- وأخيرا ؛
- لن أتحدث عن أساليب بلاغية كثيرة واضحة كعين الشمس أجاد فيها الشاعر…..
- فقط أشير إلى دلالات البيت الأخير مُختتم النص من خلال قَسَمٍ يدل على الصمود والتحدي لواقع مأزوم مفروض بالقوة، ذلك التحدي الموشوم بالأمل في النصر رغم الموت، حال كل المتعلقين بالأمل حتى ولو كان مراوغا.
- فالوطن لابد أن يتعافىٰ بالقوة والرفض وعدم الاستسلام.
- ……..
- وإليكم النص :
- ____________
- ماعادَ عندي ما أبيعُ لأشتري
- لصغيرتي في العيدِ ثوباً أو قلمْ
- ماعادَ عندي غيرُ قِلَّةِ حيلتي
- ومدامعٌ فاضتْ إذا اشتدَّ الألمْ
- ماعادَ عندي غيرُ كسرِ خواطري
- وجحودُ أصحابي وخذلانُ القِيمْ
- ماعادَ إلَّا ذكرياتُ طفولتي
- من أجلها شرُّ البليَّاتِ ابتسمْ
- ….. ***…..
- من يشتري وجعاً تغلغلَ في القصيدةِ
- متعباً كي ماينامَ ولمْ يَنمْ
- من يشتري قلباً يُفَصِّلُ نَفسهُ
- لصغيرةٍ في العيدِ نعلاً للقَدمْ
- ماعادَ عندي ما أبيعُ سوى دمي
- حتَّى دمي قد باتَ أرخصَ من قلمْ
- يا أيُّها الماضونَ في طغيانهمْ
- يا أمَّةً بالكاد تذكرها الأممْ
- يا أيها الأصنامُ فوقَ عروشهمْ
- ما زالَ حتى الآن تقديس الصنم
- يامن دفنتمْ بالحياةِ شعوبكمْ
- ورفعتمو فوقَ السراياتِ العلمْ
- يامنْ خذلتمْ طفلةً في مهدها
- وذبحتمُ الأحلامَ في تلكَ الخيمْ
- لم يبق إلا بعضُ بعضِ كرامةٍ
- أهدرتموها تحتَ أقدام العجمْ
- جوعتمونا كي نعيشَ كما الدُمى
- وقتلتمُ اللاءاتَ كي تحيا نعمْ
- والله رغم الموت لن تبقى سوى
- كلا، ولا، ما، إنْ، ولنٰ، لمّا، ولمْ
المشاهدات : 69