عيسي رمضان
في مسألة زكاة الفطر رأيان:
1- يرى جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة: عدم جواز إخراجها قيمةً (نقدًا).
2- أمّا الحنفية -ومعهم عدد مِنْ كبار علماء السلف الصالح- فيرون: جواز إخراجها نقدًا. فلا تثريب على مَنْ أَخَذَ بأحدِ القولين، ولا يُنْكَر عليه، فَمَنْ أخرجَها حبوبًا أصابَ، وَمَنْ أخرجها مالاً أصابَ؛ لأنّ الحُكم تَعَلُّلِيّ؛ لذا يمكن أنْ يختلف الحال باختلاف البلدانِ والزمانِ. والنفْسُ أميلُ إلى إخراجها قيمةً (نقدًا)، لا سيما في زماننا؛ فإنه أيسر على المُعطي، وأنفع للآخذِ. واللهُ -تعالَى- أعلمُ. وإنْ كان الطعام في أهلِ بلدٍ هو الأنفع للفقراء والأغنى لهم، وحاجتهم للمال أقلّ، كَبَلَدٍ فيه مجاعة؛ فيترجح حينئذٍ دفعها طعامًا لا مالًا؛ مراعاةً لفقراء هذا البلد. وعلى مَنْ يخرج زكاة الفطر نقودًا أنْ يطمئِن؛ فقد سبقه علماء كبار مِنْ سلفنا الصالح، قال أهل العلم: مَنْ قلّد عالِمًا لقي اللهَ سالِمًا. قَالَ مُسَافِرُ بْنُ كِدَامٍ: “مَنْ جَعَلَ أَبَا حَنِيفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ رَجَوْت أَنْ لا يَخَافَ”، ثُمّ علَّلَ ابن عابدين قائلاً: “لِأَنَّهُ قَلَّدَ إمَامًا عَالِمًا صَحِيحَ الاجتِهَادِ سَالِمَ الاعتِقَادِ، وَمَنْ قَلَّدَ عَالِمًا لَقِيَ اللهَ سَالِمًا” (رَدّ المُحتار، لابن عابدين: 1/ 52). القائلون بجواز إخراج القيمة (النقود) في زكاة الفطر: مِنَ الصحابة رضوان الله عليهم: عمر بن الخطاب، وابنه عبد الله بن عمر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عبّاس، ومعاذ بن جبل. *قال العَيني الحنفيّ: “اعلمْ أَنّ الأَصل فِي هَذَا البَاب أَن دفع القيمَة فِي الزَّكَاة جَائِز عندنَا، وَكَذَا فِي الكَفَّارَة وَصدقَة الفطر وَالعُشر وَالخَرَاج وَالنَّذر، وَهُوَ قَول عمر وَابْنه عبد الله، وَابن مَسعُود، وَابن عَبَّاس، ومعاذ، وطاووس، وَهُوَ مَذْهَبُ البُخَارِيّ” (عمدة القاري، للعَيني: 9/ . قال أبو إسحاق السبيعي مِنَ الطبقة الوسطى مِنَ التابعين، قال: “أدركْتُهم -يعني الصحابة- وهم يُعطون في صدقة رمضان: الدّراهمَ بقيمةِ الطّعام”. (مصنف ابن أبي شيبة، رقم: 10371، وعمدة القاري، للعَيني: 9/ . وَمِنْ أئمّة التابعين: عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وطاووس بن كيسان، وسفيان الثوري. “قَالَ الثَّوْريّ: يجوز إِخراج العرُوضِ فِي الزَّكَاة إِذا كَانَت بِقِيمَتِهَا” (عمدة القاري: 9/ . وأمر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز أحدَ عُمّاله أن يجمع زكاة الفطر: حبوبًا، أو دراهمَ. عن قرّة قال: “جاءنا كتابُ عمر بن عبد العزيز في صدقة الفطر: نصفُ صاعٍ عن كلِّ إنسانٍ، أو قِيمتُهُ: نصفُ درهمٍ” (مصنف ابن أبي شيبة، رقم: 10369). وعَنِ ابنِ عَوْنٍ، قَالَ: سَمِعْتُ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ يُقْرَأُ إِلَى عَدِيٍّ بِالبَصْرَةِ: “يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ مِنْ أعطِيَّاتِهِمْ، عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ نِصفُ دِرهَمٍ”. (مصنف ابن أبي شيبة، رقم: 10368). وقال الحسن البصري: “لا بَأْسَ أَنْ تُعطِيَ الدَّرَاهِمَ فِي صَدَقَةِ الفِطرِ”. (مصنف ابن أبي شيبة، رقم: 10370)، وانظر: (موسوعة فقه سفيان الثوري: 473، وفتح الباري: 4/ 280). وَمِنْ فقهاء المذاهب الذين قالوا بجواز النقد في زكاة الفطر: أبو حنيفة النعمان وفقهاء مذهبه (الحنفية). ومِنَ المالكية: ابن حبيب، وأصبغ، وابن أبي حازم، وابن وهب. ومِنَ الشافعية: شمس الدين الرملي. والأوزاعي. وأحمد بن حنبل في روايةٍ عنه. وابن تيمية في حالة: إذا كان إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة. ومِنَ المُعاصِرِين: القرضاوي. ترجيح بالقياس: حينما بعثَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- معاذَ بنَ جَبَلٍ -رضي الله عنه- إلى اليمن ليجلب زكاة المال؛ فإنّ معاذًا فَهِمَ قصدَ الزكاة، ولم يتعامل مع النص علَى أنّه تعبُّدِيٌّ غيرُ مُعَلَّلٍ؛ فقال لأهل اليمن: “ائتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ خَمِيصٍ [ثوب صغير مُخَطَّط] أَوْ لَبِيسٍ [نوع من الثياب] فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ؛ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ، وَخَيْرٌ لِأَصحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالمَدِينَةِ” (صحيح البخاري: 2/ 116). وفي روايةٍ: “ائْتُونِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ آخُذُهُ مِنْكُمْ مَكَانَ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ” (السنن الكبرى للبيهقي: 4/ 190)، وفي رواية أخرى: “فَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِلْمُهَاجِرِينَ بِالمَدِينَةِ” (السنن الكبرى للبيهقي: 4/ 189). هذا هو الفهم: أيسرُ على الذي يُخرِجُها، وأنفعُ للذي يأخذُها. وبَوَّبَ البيهقي الشافعي في سُننه الكبرى: (بابُ مَنْ أجازَ أَخْذَ القِيَمِ فِي الزَّكَواتِ). وقد أقرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- معاذًا على ذلك، وَلَئِنْ جاز في زكاة المالِ وهي الأعلى؛ جاز مِنْ باب أَوْلَى في زكاةِ الفطرِ وهي الأدنى. قال ابن رشيد: وافَقَ البُخاريُّ في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم، لكنْ قادَهُ إلى ذلك الدليلُ”. (فتح الباري، لابن حجر: 3/ 312). قال ابن حَجر: “وَقِيلَ عن قصة معاذ: (إنها اجتهاد منه فلا حُجَّةَ فيها)، فَرَدَّ ابن حجر قائلاً: وفيه نَظَرٌ؛ لأنه كان أعلمَ الناس بالحلال والحرام، وقد بَيَّنَ له النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا أرسله إلى اليمن ما يصنع” (فتح الباري، لابن حجر: 3/ 313). كذلك فإنّ ما كان قُوتًا في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- صار في زماننا فاكهةً، مثل: التمر، حيث كان قُوتًا رئيسًا في زمنهم، ففي الحديث: قالت عائشة رضي الله عنها: “إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الهِلالِ، ثُمَّ الهِلالِ، ثُمَّ الهِلالِ، ثَلاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبيَاتِ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَارٌ؛ فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الأَسوَدَانِ: التَّمْرُ وَالمَاءُ” (متفق عليه)، أمّا المسلم فلا يستطيع أن يعيش كل يوم -في زماننا- على التمر.