عثمان محمد صالح
وقال لي صديقي الهَرِمُ، في تذَكُّرِهِ البعيد ..
(حين كنت صبيَّاً بقريتنا القصيةِ في الشمال، نشأتُ في منزلِ جدَّتي لأمي، حاجة (رضينا)، والتي كانت لديها أخت تعيش بقريةٍ بعيدةٍ أخري عبر النهر ..
مرِضت أختها تلك، فأرادت زيارتها لكنها كانت هي أيضاً مريضة ..
كانت تعيش في تلك السنوات مع جدَّتي بالبيت (زبيدة) زوجة خالي فتحي و(سكينة) زوجة خالي الآخر (أحمدون) فتطوعتا معاً بزيارة أخت جدَّتي المريضة إنابةً عن جدَّتي، وأخذنني الصبيَّ مرافقاً لهُنَّ ..
عبرنا النهرَ بالمركب الشراعي ووصلنا القريةَ، سيراً طويلاً على الأقدام، ومكثنا فيها ثلاث او أربعة أيام ..
إلتقت زبيدة وسكينة هناك امرأةً لها أهلٌ بقريتنا، فعرِفنَ بعضهُنَّ، وقدَّمت لهُنَّ الدعوةَ للحضورِ لبيتها وتناول وجبة الغداءِ لديها يوم الجمعة ..
قالت لهُنَّ نذهب معاً للجامع ونصلي الجمعة ثم نعود لبيتي فأعِدُّ لكُنَّ الطعامَ ونتغدي سوياً ..
قالت زبيدة وسكينة لها (نحن لا نصلي الجمعة في الجامع) فقالت لهُنَّ (عيب، كيف لا تصلين الجمعة؟!) وكانت هي قد حجَّت بيت الله قبل ذاك ..
لبِست المرأة ملابس الإحرامِ البيضاءِ الطويلةِ، وقدَّمت لهُنَّ ثياباً ساترةً طويلةً ألبستهنَّ إياها حِشمةً وجمالاً ثم ذهَبنَ – وأنا معهنَّ – للجامع وأدَّينَ الصلاةَ في الركنِ الخلفي بعيداً عن الرجال ..
بعد أدائنا الصلاةِ عدنا لبيتِها، المضيفةِ، فاجتمعنا فيه أربعةُ أشخاصٍ، النِسوةُ الثلاث وأنا ..
ونحن ثلاثتنا جالسين في انتظارِ الغداء خرجت علينا المرأةُ المضيفةُ من داخلِ الغرفةِ بزجاجةِ خمرِ (عَرَقي) ومعها كبايةِ زجاجٍ صغيرةٍ وضعتهم على الطاولةِ بيننا وقالت: تفضلوا، لحد ما الغداء يجهز) ..
ضحِك صديقي الهَرِمُ مجيباً علىَ سؤالي
(ما شربنا والله… لكِننا تعجبنا.. جداً) ……
وتعجبت جداً أنا، ولازلت غارقاً في اندهاشي ..