قادتني خطاي يوم أمس إلى مستشفى سبها المركزي . قالوا لي إن حقنة “السيولة” التي تبحث عنها لمريضك قد تجدها هناك في المستشفى ، فمثل هكذا أدوية وحقن لا توجد إلا في أقسام جراحة العظام بالمستشفيات العامة ، فذهبت وليتني لم أذهب.
خرجتُ منه وأنا مريضاً وفي حاجة إلى حقنه من نوع آخر ، وعند الباب الرئيسي المطل على الطريق العام وقفتُ ونزلتُ من سيارتي وطلبتُ من عسكري كان في الباب أن يأتي ويقف إلى جانبي . استغرب الرجل طلبي ، بل حتى ارتاب مني ، لكنني طمأنته ، فتقدم مني ووقف إلى جانبي ساعة أشرتُ له على اللوحة الجميلة المكتوب عليها “مستشفى سبها المركزي” وقلتُ له لو تعمل معروف وتمسح كلمة (مستشفى) من على هذه اللوحة الكبيرة ، وتترك (سبها المركزي) بلا مستشفى.
أين الناس أين الأهل والأهالي الذين يسكنون في هذه المدينة ، بل أين أدنى مستوى لحياة تليق بالبشر.
لم أجد الحقنة . ذهبتُ لصيدلية المستشفى ولقسم جراحة العظام ولأكثر من مكان داخل المستشفى وليتني لم أدخل المستشفى . شيء يا عزيزي لا يمكن للكلمات أن تصف المأساة التي تتحرك في الداخل.
قبل أيام قادني نفس الظرف لنفس الحالة إلى مستشفى هون ، فقالوا لي إن هذه الحقنة لا نعطيها إلا لمن هو نزيل على أسِّرة المستشفى أو ممدد في سيارة إسعاف ، فقلتُ لهم إنه في سيارة اسعاف . فتحوا باب المستشفى على مصراعيه بعد أن كان مغلقاً (فأنا أحدثكم عن حالة إسعاف تمر على هون بعد منصف الليل) فتحوا الباب وجاء ممرضهم وقام بالواجب ودعى لنا بالشفاء وهو يودعنا عند الباب.
شتان بين هون وسبها.
حفظ الله هون.
يكذب عليكم مَن يقول لكم أن المسافة بين سبها وهون 300 كيلو متر ، ويكذب عليكم مَن يقول لكم أن المدينتين قريبتين من بعضهما ولا يفصل بينهما سوى جبل السوداء.
يقول أ “ابراهيم زايد” أنه وقعت بين يديه مؤخراً مجلة صادرة في 1978 . أخذ المجلة وانزوى في ركن المكان وتصفحها بشغف ورائحة السبعينيات تفوح منها ، ليجد في داخلها مقالة عن سبها لكاتب ألماني يصف المدينة بالرائعة جداً . كنتُ أعرف أنها رائعة جداً وأعرف يومها أنها أروع حتى من دبي ، وما كنتُ في حاجة للاستدلال بهذا الكاتب الألماني فأنا ابن هذه المدينة وأعرف مراحل تقهقرها وسنوات الكرب التي مرت بها.
سحبوها بعد 78 للخلف حتى باتت المسافة بينها وبين هون 300 سنة.
كان مُقدراً لـ هون أن تتقهقر هي الأخرى . أن تعود إلى جانب سبها 300 عام لكن المشروع تعثر وفشل في اقتلاع المدينة من جذورها العريقة . تشبثت هون بالنخلة . خالت لي يومها وهم يخلخلونها لتعود معهم إلى 300 للخلف كما لو أنها تتمسك بيديها وبكرعيها بالنخلة حتى لا تتقهقر مع سبها.
نجتْ هون ولا أحد فيها اليوم ينكر فضل النخلة عليهم ، فلولا الله ولولا النخلة لكانت هون اليوم تقع على بعد 300 عام للخلف.
مثل هذا النموذج أعرضه الآن ليس فقط لإظهار حجم المصيبة التي تقع فيها سبها بل أعرضه ايضاً كنموذج له مناعة عالية ، وأيضاً كنموذج خرج بعد عقود بأقل الخسائر إذا قورن بمن حوله.
هون اليوم يمكن أن تُشكل مدينة وسط لكل المتخالفين والمتخاربين والمتحاربين في البلاد.
لا شيء اليوم يمكن أن يجمع الليبيين سوى ظل نخلة تضرب جذورها في تراب الوطن.