كتب :: د / نورالدين سعيد الورفلي
مع مجموعة “الألِف” L’Aleph، لـ غورخي لويس بورخيس، جلست تحت خروبتي، شاكستني عصافير القصبي، وإناث العناكب، مازحتها هاتفاً: كوني هياكل حلزون، تذكرت رجفة السندباد الصغير، هجتني العناكب في عشها: “لا عظام لمن تنادي”، ارحل من هنا، وصفقت عصافير القصبي لصديقاتها ، ثم تمتمت لي: “تخيل لو أنك قنفذ، وثمة ديناصورات الآن؟”. ضحكتُ، ولم يكن ثمة أحد يشاركني الضحك، تلفّعتُ بالحكاية ودخلت في المشاهِد:
حكي غورخي، مفتتحاً نصه بمشهد داخلي نهاري في قرطبة بالأندلس، بدأ بالاسم الطويل العريق لابن رشد، وتاريخ ميلاده، ومكانه، كان ابن رشد تثقله جراح المعاني في الترجمات، ذلك الذي لم يجد بداً من فصل المقال في كتاب آخر، وحين اختنق بغبار غطاء الكلام، لاذ بالصمت، وقفل مؤلفه “تهافت التهافت”. توجه لكتاب “الشعرية”* Poetica، كان أرسطو طاليس قد تحكّم بقفل الاصطلاحات على معانيها ولاذ بالفرار ألف وثلاثمائة وخمسون عاماً إلى الوراء بالنسبة لابن رشد، وألفان وثلاث مائة وسبع وأربعون عاماً بالنسبة لغورخي المؤلف، وسبع وخمسون عاماً أخرى بالنسبة لي كقارئ، لم ينبش أثر أرسطو بالترجمة، عدا هذا المتلفع بالأبهة، كبير الفلاسفة، ابن رشد، وكان كتاب الشعرية مرهق في المفاصل والفواصل، بقت كلمتان لم يجد لهما رأس ولا جسد، “تراجيديا وكوميديا”، وحين دخل في معركته معهما حول المعنى، تحولت الكلمتان إلى زئبق، رمى أبو الوليد بن رشد كل شيء، تمشى في غرفته جيئة وذهاباً، مستمعاً إلى خشخشات نعله، توقف أمام نافذته التي تطل على الزنابق والياسمين، لوى رقبته المنهكة طقطقها يمنة ويسرى، أدخل رأسه في فراغ النافذة، هب نسيم لا عهد له به، تلفت إلى الزُنباقات السبعة التي تسلقت غرفته لتجثوا على النافذة، تأمل حقل ورد الجوري المشاكس الذي لم يستطع تحديد نهاياته ولا وصف ألوانه، علّق بصره في شعاب الوادي الكبير وحدود مدينته قرطبة التي لم يجد في أصقاع الأرض ما يشبهها، صفق سرب من الحمائم قرب النافذة، تابع بن رشد سيرها حتى توارت، أغلق نافذته وباب غرفته ونزل.
واقع الحال أن ابن رشد لم يغادر داره إلا عند الغسق، في نص غورخي لويس بورخيس، بل أبقى عليه لأنه كان على موعد مع الرحالة أبا القاسم الأشعري، العائد من بلاد مراكش، وسيتناولون العشاء سوية في بيت شيخ العلوم القرآنية المدعو فرج، هذه الليلة، وإلى ذلك الحين انغمست بدوري في أعماق الجمل أحاول لاهثاً أن أحاصرها، وشعرت بالشفقة على هذا النبيل، لقد كساني رعب حروف بورخيس جبة من القشعريرة، وتساءلت كيف تعجن القصص بهذه اللذة الغريبة، في البداية لم يثيرني الصبية الذين اصطفوا وصعد أحدهم ربوة صغيرة ليترنم بالآذان، غير أنني تذكرت صبياً آخر، لعب دور أمير المؤمنين في قصة أخرى قبل هذه، أثارني حين خر الذي بارزه على الأرض وبصق على الأمير، هتف الصبية في صوت واحدٍ: مزقه يا علي!، رمى الأمير سيفه وترك المعركة، صرّح: “لو قتلته لقالوا قتله من أجل نفسه وأنآه، ديني أعظم مني ومن أي شيء”.
لم ينتبه ابن رشد، عدا أنه كان سعيداً لرؤية المشهد، لو تفكر ولو للمحة بصر أن الدراما اصطلاح مرمي أمامه الآن، وأن نوعاً من التراجيديا كان قد حصل بالفعل في هذه الأثناء، وأنه أيضاً قال وهو خارج لتوه من قصره: “ما نبحث عنه في البعيد هو أقرب إلينا من حبل الوريد”، ما كان ليأكله سهره وضيق صدره، ألم يقل أرسطو أن “الفعل هو التحفيز على إعادة النظر في الأشياء؟”، يا للرعب يا للحقيقة، وبدأت تأكلني الهواجس، وبدأت أخمن في استراتيجيا اللغة ذاتها وأي لعبة كونية هبطت بها بين دفّات هذا الكتاب الصغير؟.
لا بأس، لامناص من أن نوع من التطهر بدأ يتدفق إلى رأسي الآن، وبدأت أشعر بسوء حظ هذا الحكيم، الذي خلا عصره من تكنولوجيا الاتصال المعقدة بروابط البحث.
وصف بورخس في قصته كل شيء، حتى عدم الرضا التام والقلق الذي انتاب هذا الطبيب والفيلسوف ابن رشد، وكتابته ببطء وحذر من اليمين إلى اليسار، ورسمه للكاليغرافيا، غير عابئ بالترف الذي يعيشه، وبيته الواسع وصوت العصافير ومنظر الحديقة المزدحم بالورد، وخرير نافورات الماء بلا انقطاع.
ومن وجهة نظر بورخس لم يكن أبو الوليد عارفاً بالسريانية ولا بالإغريقية، كان يترجم ترجمة عن ترجمة، كانت مهمته تفسيرية محضة، وكانت معاناته مضاعفة، تخيلته أمامي الآن بكامل هيبته وأناقته في القرن الحادي عشر، وهالة من نور العلم، تغطي وجهه.
فيلسوف و طبيب و فقيه و قاضي و فلكي و فيزيائي، تعطر لتوه بعطر يشابه “الناوتيكا بلو أو الآنجِل مين”، وعدّل من عمامته، رأيت ابن رشد فقط مرة واحدة عند مخرج حالم يدعى يوسف شاهين، هذا حد معرفتي بشكله في الدراما، وقرأت له بعض المؤلفات، يا للحسرة، كيف لي وأنا في القرن الواحد والعشرين أن أرفع رأسي وإن يكن أنني أتخيّل، كيف لي وأنا متورط في معاني درستها ألف مرة وحيرتني، أنا المترف بوسائط الاتصال وقرب العالم، أي مكان أريده يخرج لي من نافذة بلمسة زر، وأكلتني لذة النص، وبدأت ألتهم الحروف المترجمة عن الإسبانية إلى الإيطالية من خلال لغة شعرية لـ فرانشيسكو تينتولي مونتالاتو*، في اثنتي عشر صفحة تدفقت إلى رأسي في بطئ رهيب، من خلال لغة يتصرف الفعل الواحد فيها إلى أربعين مرة، وفي كل سطر أتوقف لأعيد معنى الكلمة، وكان قاموس خليفة التليسي ثقيلاً، وأحسست بصبر التليسي في عذاباته، وأذكر أنني حييته كما لو أنني جندي حين تأملت صورته المرسومة في أول أوراق القاموس، وذلك حين وصل بورخيس في القصة إلى تحول الحوار في بيت المدعو فرج، من الحديث عن فضائل الحاكم الفريدة، إلى الحديث عن فضائل أخيه الأمير، وحديثهم حول الورود وأنواعها، وقَسَم أبا القاسم الأشعري بأغلى ما يملك، بأنه لا توجد ورود كهذه التي تزين حدائق قصورهم في الأندلس، غير أن فرج المضيِّف لم يستسلم للإغواء، بل ذهب مباشرة إلى الاستماع إلى العلاّمة ابن قتيبة في وصفه الخلاّب لنوع بديع من الورود دائمة التضوع والتفتح، تنموا في حدائق هِندُستان، ترتسم على بتلاتها القانية حروف تقول “لا إله إلا الله، محمداً رسول الله”، وأضاف فرج أن أبا القاسم سيد العارفين بتلك الورود، في حين خاف أبي القاسم من الشهادة فإن قال نعم اتهموه بالنفاق، وإن قال لا أدخلوه في قائمة الكفرة، فاختار أن يتمتم : <<وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين>>**، وقوبلت الآية، كونها من أوائل السور المباركة الصعبة على الحفظ، بهمهمة الحاضرين وتسبيحهم، أحس أبو القاسم بشيء من الزهو والانتصار، كمن ربح جولة الجدل كله، هنا بالضبط أراد ابن رشد أن يتدخل، فمن جهة الآية دامغة بالبرهان، ومن جهة أخرى القرآن المعظم لا يقبل الترهات من التأويل، كل شيء من صنع الله وآية له، لا مجال للخيال ولا للتجديف باسم الله ورسوله في جدليات تبتعد عن العلم، لكنه تدخل بالفعل لصالح صديقه الأشعري، الذي كان ابن رشد يدرك جيداً أن هذا الأخير يبتعد بطبيعته وشغله عن أي تعمق في علوم اللاهوت، وقبل أن يبدأ ابن رشد حديثه، تدخل أبا القاسم مرة أخرى، وتذكر قول الشاعر عبد الملك، أن أحد الرحالة تحدث عن شجرة تثمر طيوراً خضراء، ولعلي بأقل قدر من المشقة يمكنني تصديق ذلك من أن يدخل في دماغي أن تطبع حروفاً على ورود قال أبا القاسم، فأضاف ابن رشد على نسيج كلام صاحبه:
– إن لون الطيور يُسهِّل كما يبدو تصديق المعجزة وإن كانت هراء. أضف إلى ذلك أن الثمار والطيور تنتمي إلى العالم الطبيعي، بينما الكتابة صنعة. فتحول الأوراق إلى طيور أسهل من تحول الزهور إلى حروف، قال ابن رشد وتحول ببصره إلى الحديقة التي صنعها المهندسون العرب بدقة سينتمترية عجيبة .
يا للروعة تمتمت مع نفسي: أي نوع من جمال العقول في ذلك الزمن البعيد كان ابن رشد؟، فيما تدفقت أسطر بورخيس أمام ناظري، قال أحد الحاضرين محاولاً خنق أبا القاسم من لهاثه بالأسئلة، متفكهاً وشامتاً: ـ طالما انك رحّالة فلا مناص من تعثرك بأروع العجائب أروي لنا إحداها رعاك الله.
لقد كان العالم آنذاك مثلما هو اليوم، مريعاً ومرعباً، وللجسورين وحدهم قدرة الجوب في مناكبه، غير أن بعض البؤساء القادرين على التكيف مع كل شيء، هم الآخرين لهم المقدرة على ذلك أيضاً، فزاد كلام المتدخل من الحاضرين جبناً إضافياً فوق ذاكرة الأشعري المحمومة بالمخاوف، ما الذي بإمكانه أن يرويه لهم الآن؟، وهم يطلبون فوق ذلك الكلام أعجوبة، خصوصاً أن بعض الأعاجيب أبعد من أن تنقل، فقمر البنغال لا يشبه قمر اليمن، غير أن وصفه بالألفاظ نفسها أمراً ممكناً، لكنه تكلم أخيراً، فاشرأبت رقاب المتحاورين نحوه بالسمع والبصر، قال بصرامة لا تخلوا من المداهنة: إن من يتجول في الأمصار والمدن بمناخاتها الكثيرة المشارب، لاغرو إنه سيرى أموراً كثيرة تقبل التصديق وبالحجج الدامغة.
لا أتذكر بالتحديد متى رويت لملك الترك قصتي التي سأحكيها لكم الآن قال أبا القاسم، وقعت أحداثها في صين كالان (كانتون)، حيث يصب نهر ماء الحياة فـي البحر.
فسأله فرج عن المسافة بين المدينة والسور الذي شيده الإسكندر المقدوني (ذو القرنين)، لصد يأجوج ومأجوج !.
ـ صحارى تفصل المدينة عنه ـ هتف أبو القاسم بصوت عال غير متعمد ـ تحتاج القافلة إلى أربعين يوما كي تلمح أبراجه فقط، ومثلها من الأيام كما يقولون لكي تبلغه، وواقع الحال أنني لم أتعرف في صين كالان كلها على من رأي ذلك السور أو رأي من رآه.
انتاب ابن رشد للحظه، خوف مريع من اللامتناه التام، من الفضاء الخالص، ومن المادة المحضة، جال ببصره في الحديقة المتناظرة هندسيا، وأدرك أنه قد شاخ تماماً.
توقفت من جديد عند هذا الكلام وبدأت أتخيل أن كل كلمة من هذه القصة، هي حبة لوز مبشورة في حلاوة طحينية، وأذهلني وصف بورخيس أكثر وأشفقت على ابن رشد بدرجة أكبر من سابقاتها في بداية القصة، حتى في الأثناء التي لويّ فيها أبا القاسم ذراع الحكاية، ودخل في معمعة لا يعرفها هو أيضاً، في الوقت الذي كان يسرد فيه كلاماً عن الكوميديا دون أن يدري، لم يستخلص ابن رشد أي معنى، لقد كان يتلذذ بقصة تروى ونسي بحثه.
قال أبو القاسم:
ذات مساء دعاني بعض المسلمين من تجار صين كالان إلى دار مبنية من خشب ملون ومزين برسوم، آوى إليها مجموعة من الناس، ليس لي القدرة الآن على وصف لباسهم أو أقنعتهم، ولا كيف كانت تلك الدار التي لم أشهدها عندنا، فهي أقرب أن تكون حجرة واحدة، فيها صفوف متدرجة أو ربما شرفات بعضها فوق بعض، وكل فريق في جانب، فريق يأكل ويشرب جالس على أدراج، وفريق على منصة يقرعون الطبول ويعزفون على العود، فيما خمسة عشر أو عشرين منهم يرتدون (أقنعة حمراء اللون) بعضهم يغني وبعضهم يصلي وآخرون من نفس الفريق، يتحاورون، يعانون السجن، وليس هناك من يرى سجناً، يمتطون الخيل دون أن نلمح أي حصان، ويقاتلون غير أن السيوف من قصب، ويموتون ثم ينهضون بعد ذلك واقفين.
قال فرج: أفعال الحمقى تتجاوز توقعات العقل. هنا كان على أبي القاسم أن يوضح:
لم يكونوا حمقى، بل كانوا يتماثلون مع حكاية، مثلما أوضح لي أحد التجار.
لم تدخل هذه القصة عقل أحد من الحاضرين، فانتقل أبو القاسم مرتبكاً من الحكاية المسموعة إلى البراهين اللا متكيّفة، مستعيناً بالإشارات اليدوية:
ـ دعونا نتخيل أن أحداً ما يعرض قصة بدل أن يحكيها، ولنفترض أنها قصة أهل الكهف في أفيسوس. نحن نراهم يدخلون إلى الكهف، نراهم يصلّون وينامون بأعين مفتوحة، نرى أجسامهم تتقلّب ذات اليمين وذات الشمال، وتنموا دون أن نرى من يقلّبهم، ثم نراهم يستيقظون بعد ثلاث مائة وتسع سنين عددا، ونراهم قد أعطوا للبائع عملة قديمة، نراهم يستيقظون في الجنة مثلاً، ينهضون مع كلبهم، شيء ما كهذا عرضه علينا الأشخاص الذين كانوا على المنصة تلك الليلة.
هل يتحدثون أولائك الأشخاص؟ سأله فرج
– طبعاً كانوا يتكلمون – قال أبو القاسم، الذي تحول إلى مدافع عن عرض يكاد لا يتذكره، وكان قد أزعجه حين شاهده، إنهم يتكلمون ويغنون ويخطبون.
قال فرج: الأمر لا يحتاج إلى عشرين شخصاً، يمكن لمتحدّث واحد أن يقوم بالخطاب ويروي أي شيء، مهما بلغت حدة تعقيده.
أيّد الجميع رأي فرج وأثنوا على اللغة العربية ومحاسنها، تلك التي خاطب بها الله ملائكته، ثم أثنى الجالسون أيضاً على جمال شعر العرب وفضائله، فتدخل الشاعر عبد الملك، بعد أن أشاد بما هو أهل للشعر، لكنه وصف الشعراء الذين مازالوا يتمسكون ـ سواءً في دمشق أو في قرطبة ـ بالصور الكلاسيكية الرعوية، والمفردات البدوية، بأنهم قدماء عفا عليهم الزمن، إنه لمن السخف أن يتغنى شاعر بماء بئرٍ فيما نهر الوادي الكبير يمتد أمام ناظريه بكل جلال، وألح على ضرورة تجديد البلاغة في الصور المجازية القديمة، وضرب مثلاً بتشبيه زهير للمنايا بناقة عمياء تضرب الأرض خبط عشواء، وأضاف: لعمري أن هذه الصورة فتنت الناس، غير أن خمسة قرون من الهيام بها قد استنفذتها. تهامس الجميع تأيداً لرأي الشاعر عبد الملك، والذي كانوا قد سمعوه مرات عديدة من قبل، ومن ألسنة شعراء كثر.
كان ابن رشد واجماً صامتاً، لكنه عندما صمت الجميع تحدث، رغم أن حديثه كان أكثر قرباً إلى نفسه مما هو للآخرين.
– لقد دافعتُ ذات مرة، قال ابن رشد – مُتكئاً على بعض البلاغة، ولكن ببراهين متوافقةـ عن القضية التي يدافع عنها الآن عبد الملك. لقد قيل فـي الإسكندرية بأن الوحيد غير القادر على ارتكاب الخطأ هو من ارتكب الخطأ وندم عليه؛ ونضيف نحن، بأن الخلاص من الخطأ يتطلب الاعتراف به أولاً . وزهير ابن سلمى يقول فـي معلقته، إنه خلال ثمانين حولاً من المعاناة والمجد، رأى الموت كقدر فـي أحيان كثيرة، يفتك بالبشر مثل ناقة عمياء؛ ويرى عبد الملك كما كان يتحدث قبل قليل، أن هذه الصورة لم تعد تدهش أحداً. وهذا التحفظ يتسع بالضرورة على ردود كثيرة. أولها: أنه إذا كان الهدف من القصيدة هو الإدهاش، فإن زمنها لا يقاس بالقرون وإنما بالأيام والساعات، وربما بالدقائق. والرد الثاني هو أن الشاعر الذي نال حظه من الشهرة، لابد أن يكون مبتكراً خلاقاً، أقل مما هو مكتشف.
ومن أجل أن يُمتدح ابن شرف البرجي، قيل مراراً وتكراراً إنه الوحيد الذي استطاع أن يتخيل النجوم فـي الفجر تتساقط ببطء مثل أوراق الشجر؛ وإذا ما كان ذلك صحيحاً، فإن هذا الكلام يكشف أن الصورة مبتذلة. فالصورة التي يمكن لإنسان وحيد أن يشكّلها هي تلك التي لا تؤثر فـي أحد. هناك أشياء لا حصر لها على الأرض؛ ويمكن لأيّ منها أن يُشبّه بأي شيء آخر. فتشبيه النجوم بأوراق الشجر لا يقل اعتباطية عن تشبيهها بأسماكٍ أو طيور. ولكن ليس هناك بالمقابل من لم يشعر يوماً بأن القدر قوي وأهوج، وأنه بريء، ولكنه غير إنساني كذلك. فمن أجل هذه القناعة التي يمكن أن تكون عابرة أو متصلة،غير أن أحداً لا يستطيع تجنبها، وهي أن بيت شعر زهير تمت طباعته في الأذهان. ولا أظن أن أحداً سيأتي بمثل ما قاله في القدر والموت. أضف إلى ذلك (وربما كان هذا هو جوهر تأملاتي) قال ابن رشد وأضاف: “أن الزمن، الذي يجعل القصور تتآكل، هو الذي يُغني الأشعار بالتورية”.
لقد أفاد بيت زهير، عندما نظمه فـي جزيرة العرب، فـي مقارنة صورتين: صورة الناقة العجوز وصورة الموت؛ ويفيد ترديده الآن فـي حفظ ذكرى زهير والخلط بين همومنا وهموم ذلك العربي الميت.
لقد كان للصورة البلاغية حدان، فصار لها اليوم أربعة حدود. فن الشعر أيها الأصدقاء، مرهون بالزمن فهو وحده الذي يوسع مجالاته، كما أنني أعرف أن بعض الشعر في تضافره مع الموسيقى، هو كل شيء فـي نظر الناس كافة. وهكذا، حين كنتُ أتعذب، قبل سنوات، فـي مراكش، وأنا أتذكر قرطبة، كنتُ أشعر بالرضى فـي ترديد بيت الشعر الذي وجهه عبد الرحمن بن معاوية (الداخل)، إلى نخلة افريقية، وهو فـي بساتين الرصافة:
“نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي”.
إنه انتفاع فريد بالشعر؛ فكلمات قالها ملك يحن إلى الشرق، تنفعني أنا، المُبعد فـي أفريقيا، للتعبير عن حنيني إلى الأندلس.
وهكذا رأيت ابن رشد بعد هذا الكلام يتحدّث عن الشعراء الأوائل، عن أولئك الذين تغنوا بكل شيء في الجاهلية، بلغة لا متناهية في الجمال والانسياب الصحراوي العميق لبحر الكلام كما في بحر الرمال العظيم، كان كل ذلك رد فعل منه على انزعاجه من ترهات ابن شرف وحذلقاته الفارغة، وكان محقاً في ذلك.
وفي النهاية أدخلني غورخي لويس بورخس إلى قصر ابن رشدمن جديد، غير أن الزمن الآن كان في الساعات الأولى من الفجر، ولقد طربت بصوت الآذان صادحاً من مآذن الأندلس، كان المؤذن القريب يترنم بمقام الحجاز، ومؤذن آخر على مقام الماجور، أو هكذا خلته، وثالث بعيد بنغم رائع لا أتذكر الآن مقامه، ورأيت أناس يخرجون من بيوتهم، شباب وشيب، ورأيت الحب، والتعاضد، ورأيت العلم يمشي في جبته.
وشعرت بغبطة لم يتسنى لي أن شعرت بها مع أي مكان في الحياة أو في الحكايات، وتسلل سمعي إلى الجاريات ذوات الشعر الأسود الفاحم، ورأيتهن يعنفن ويصرخن في وجه جارية ذات شعر أحمر، ورأيت كيف فتح ابن رشد مخطوط مجلده وغمس ريشته في الحبر وأضاف بخط ثابت واثق، أسطر مفادها:
<< يُطلق أرسطو تسمية تراجيديا على المدائح والخطب، والكوميديا على الهجائيات والسخرية. وثمة اكتناز وفير من التراجيديات والكوميديات العظيمة، في قصص القرآن الكريم، وكذلك في المعلقات على جدار الكعبة قبل الإسلام>>.
أحس ابن رشد بتثاقل في رأسه، وبنعاس يكتنف عينيه وجسده بالكامل، ورأيته مثلما قال بورخس في حكايته، ينزع عمامته وينظر في المرآة المعدنية اللامعة انعكاس وجهه المرهق لكنني لم أتأكد من ملامحه، لأن بورخس قال أيضاً أنه لا يدري ما الذي رأته عينا ابن رشد أصلاً، فلا أحد من المؤرخين وصف ملامح وجهه، أو تحدث عن صفاته، وهكذا قفل بورخيس قصته: بأن كل شيء في مكان الحكاية وشخوصها، اختفى.
ن.م.س
فلورنسا ـ الزهراء 2012.
ملاحظة
تمت ترجمة النص والأحداث التي كنت خارجها ترجمة غير حرفية وبتصرف عدا في الجزء الأخير منها، وسأحاول ترجمة النص كله متى تسنى لي ذلك ان شاء الله.
تمت الترجمة عن مجموعة بورخيس االموسومة بـ “الألف” راجع مثلاً:
Jorge Luis Borges, L’aleph, Feltrinelli, Pb 36, pag, 89 100.
*تمت ترجمة اصطلاح Poetica، لأرسطو طاليس بفن الشعر، والأنسب يمكن أن يكون الشعرية، لأن فن فن الشعر مقصور على الشعر وحده، فيما كلمة بويطيقا تعني كل ما هو شعري حسب رأيينا.
**الآية 59 من سورة الأنعام.