حينما لا يجد الإنسان تعبيرا  عن ذاته سوى أن يصرخ ( مياووو !! )

حينما لا يجد الإنسان تعبيرا  عن ذاته سوى أن يصرخ ( مياووو !! )

  • الناقد / محمد حسن رابح المجمر

السرد_والنقد_في_السودان

موضوعة الحرب وأسئلتها المفتوحة في مجموعة ( ذكاء إصطناعي ) للكاتب منتصر منصور

تعتبر المجموعة القصصية ( ذكاء إصطناعي ) للروائي والقاص السوداني منتصر منصور من أميز الكتابات السردية التي غاصت عميقا في لجة البحر الأسود لحرب السودان الأخيرة  ، حيث تطرح هذه القصص في لحظة تنوير باهظة التكاليف  بانفتاحها على أدق تفاصيل تحولات النفس البشرية بين الامل في الحياة وشبح الموت الذي يخيم على أزمنتها وأمكنتها التي جاءت في أحايين كثيرة عجائبية ومذهلة .

جاءت المجموعة القصصية ( ذكاء إصطناعي ) التي تحتوي على (١١ قصة قصيرة )  كمخاض عسير للسرد المضاد لإنكسارية حركة تدفق الوعي بكارثية الحرب على الإنسان – أعزلا كان او مدججا بالسلاح – كما سنرى كيف تجول الكاتب منتصر منصور بين ( الذاكرات المشتركة بين القاتل والمقتول او الجلاد والضحية ) لينفرد بوجه الحرب الكالح وهو يكشر عن أنيابه كذئب مسعور .

في قصة  الأسير ( رقم ستة عشر ) وهو الإسم الكودي لأسير فقد كل شيء في حياته الطبيعية ولم يعد يملك شيئا سوى إنه إكتشف إن هنالك ذاكرة مشتركة بينه وبين الجنجويدي المسلح الذي يحرس الكركون حيث يعتقلونه ، إشتغلت هذه القصة على مضمون ما كانت تنوء به هاتين الذاكرتين من أمال وطموحات شخصية تشكلت قبل أن ينخرطا في تداعيات هذه الحرب المدمرة ، مابين الأحلام الفردية وقوة جرف المصالح والأهداف العليا للجماعة المتسلطة تموت الإنسانية داخل هذا المقاتل الذي كان من المفترض إنه إنسانا ، فيتوحد القاتل والمقتول في مصير واحد .

وأنسنة الحرب او تجييرها لصالح اي قيمة أخلاقية تخص أحد أطرافها هذا ما عمل الكاتب منتصر منصور على هدمه من الأساس فقد كان ومنذ بداية إنغماصه في هذا السرد القصصي المشوق يرمز لهذا الإنسان بما يقابله في الشرط الوجودي في اللحظة بأحد الحيوانات كناية عن عدم أخلاقيتها وعدميتها بشكل جذري ، ولن يكون هنالك سقفا للتهكم والسخرية أعلى من أن يجيب ( مواطن أعزل ) عن إسمه وعنوانه ومهنته أمام قوة من الميليشيا تقف على إرتكاز في نهاية الشارع بإيماءة تحاكي صوت القط ( مياو ) .. فقط ( مياو ) لا شيء أخر !.

وترتبط هذه القصص من حيث زمانها ومكانها بزمن الحرب والسرديات التي مهدت لها على مستوى التنظير لكي تصبح واقعا غير محتمل بعد ذلك ، كما أن هنالك مرجعية تأريخية شفاهية لطالما إستنطقها الكاتب في سياقات بحثه عن ( تعريف يتسق مع الواقع اللا إنساني ) الذي إنسحق الإنسان السوداني داخله بفعل عدمية وهمجية مقاتلي ميليشيا الدعم السريع .

وإمعانا في تفكيك هذه الكتلة السوداء من الدماء التي تم سفكها مجانا في هذا البلد المنكوب نقرأ في قصة ( السيارة المفقودة ) نصا يشابه في شعريته المتدفقة بلا إنتظام ما فعلته ( تاتشرات الجنجويد ) –  وهي عربات دفع رباعي قتالية سيئة السمعة في هذا البلد الموبوء بالحرب الأهلية منذ خمسينيات القرن الماضي – وهي تجوب شوارع وأزقة الخرطوم كرا وفرا في الليل وأناء النهار ، لتنقلب الى معكوسها داخل النفس البشرية ، ولنرى حجم الفاجعة في هذا الحوار :

-لقد سرقوا منك حبيبتك .

-بل سرقوا منك حبيبتك ووطنك !!.

وتتجلى في قصة ( الشاشة السابعة ) جوانب فكرية عميقة ذات صلة بمسألة تكييف عقل الإنسان/ الضحية على معايشة مفاهيم سطحية تتمحور حول فكرة النصر والهزيمة في الحرب لكنها تجتهد في التستر على المستفيد من هذه الحرب وهو من حرض عليها ومول فاتورة شراء أسلحتها ، وقد أبدع الكاتب منتصر منصور في توظيف ( الشاشات ) بمحمولاتها السياسية والثقافية في تحليل موضوعة الحرب والتلاعب الإعلامي بعقول الضحايا وهي تجربة واقعية عايشناها طوال العاميين الماضيين ولا زلنا نحدق في إتجاهها ، وما يهمنا هو تعدد وجهات النظر الذي لم يسترسل فيه القاص كثيرا بما ينطوي عليه من فرصة سانحة لإجتراح لغة جديدة تواكب متغيرات تكنولوجيا الإعلام وإسهامها في ( القتل الجماعي ) لضحايا الحرب .

وعلى ضوء متغيرات هذه التكنولوجيا المتوحشة أنتج الكاتب قصته ( ذكاء إصطناعي ) هي عنوان مجموعته القصصية والتي جاءت كواحدة من أكبر القصص تعقيدا وتشابكا مع الأسئلة المفتوحة التي طرحتها هذه الحرب في الوعي الجمعي في السودان ، فلا احد يموت حتى وإن تأكد للكافة أنه كان من بين الهالكين في الميدان ، هو ليس بعثا جديدا للأجداث من التراب وإنما تضليلا وشعوذة تتوسل بتكنولوجيا الإعلام لإعادة إنتاج صورة بل وشخصية القائد الذي يفترض أنه ميت ، ولهذه القصة علاقة قوية بطريقة تفكير طائفي حول عودة الإمام المنتظر المأخوذة من الشيعة وهي فكرة متجذرة في المجتمعات التي زحف منها الجنجويد من صحرائهم القاحلة في الشتات على أرض النيلين منذ مئات السنين

ومن الأشياء التي أخذتني في هذه المجموعة القصصية ( ذكاء إصطناعي ) إنها لم تكن توثيقا – برانيا او سطحي – لما عاثه الجنجويد في الخرطوم وغيرها من فساد وتدمير ممنهج للحياة والبنية التحتية للاقتصاد والدولة برمتها ، وإنما جاءت من خلال هذه النصوص السردية المتصلة من خلال روابط سببية وسياقية ذات أبعاد إنسانية مشتركة فيما يشبه الخيط الرفيع الذي يربط الحكايات مع بعضها البعض ويجنسها كقصص قصيرة ، أنها تستبطن موضوعة الحرب وتعريها وتكشف عن أطوال الشرخ الكبير الذي حدث داخل الذات الإنسانية لبطل هذه القصص الذي أستتر خلف ضمير المتكلم ، ولا يليق بوضع الإنسان الأعزل الذي تسحقه الة إعلام هذه الحرب الشرهة والقاسية سوى أن ( ينطق ) وأن يصدر صوتا قويا حتى وإن عبر عنه بصوت حيوان كقوله ( مياو ) كناية عن مقولة تنسب لقائد الجنجويد حميدتي الذي هدد خصومه بأن تتحول الخرطوم لمأوى للقطط بعد الحرب .

ومما يدعو للإحتفاء بهذه المجموعة القصصية ( ذكاء إصطناعي ) أن الكاتب منتصر منصور قد قام ( بهندستها وتطريزها وتلوينها ) في هذا السفر الرشيق ولا يزال الضماد على الجرح وجرح الوطن المفتوح ينزف ، فهي مجموعة غير منتهية مثلها ومثل هذه الحرب التي تتصرف كسفينة جانحة بعيدا عن الموانيء ، إنها ذاكرة الحرب الدامية التي نعالجها بالوعي بل والمزيد من الوعي

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :