- فسانيا : سلمى مسعود
وسط ضجيج الأخبار اليومية عن الحرب والسياسة والاقتصاد، تمر أمامنا قصص إنسانية قد لا نلتفت إليها، لكنها تختصر مآسي شعب بأكمله.
هذه قصة الأم الليبية ع.ع.أ، امرأة عاشت طفولة يتيمة، ثم صارت أمًا مطاردة بالخوف والمرض والتهديد، فاختارت الهروب حمايةً لابنتها الوحيدة.
لكن، هل كان الهروب خلاصًا أم بداية لرحلة ألم جديدة؟
في هذه القصة التي تنشرها فسانيا، نكشف لكم كيف تنهار حياة امرأة بين ليلة وضحاها، وكيف يتحول الوطن من حضن دافئ إلى طريق نحو المنفى، وما الذي تفكر به أمّ فقدت كل شيء وبقيت تتمسك بيد صغيرة… يد ابنتها
“الخروج من الوطن، موت مؤقت“.
“أن تغادر وطنك طوعًا فذلك اغتراب، أما أن تغادره مكرهًا فذلك موت مؤقت.”
بهذه الكلمات بدأت الأم الليبية ع.ع.أ قصتها لفسانيا، وهي تروي تفاصيل رحلتها المؤلمة من ليبيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مرورًا بتونس، هربًا من الفوضى والحرب والمرض.
لكن، ماذا يدفع امرأة ناجحة وأمًا محبة لأن تغادر وطنها إلى المجهول؟
ذكرى مؤلمة أعادت كل شيء
تقول ع.ع.أ إن قصة المرأة الليبية التي انتشرت مؤخرًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي – والتي ركبت البحر مع ابنتها سوهان بحثًا عن دواء لم تجده في ليبيا – أعادت إليها شريط حياتها.
“كلتانا غادرنا الوطن مع ابنتينا، نحمل ألمًا لا يحتمل. لكنها كانت تبحث عن علاج لابنتها المريضة، بينما أنا كنت أحمل مرضي وألمي وأحاول أن أحمي ابنتي من أن تراه.”
كيف للإنسان أن يقف صامدًا أمام ألم جسده وخوفه على فلذة كبده في ذات الوقت؟
طفولة يتيمة، ووطن يحتضن.
ولدت ع.ع.أ يتيمة الأبوين، لكنها وجدت في الوطن حضنًا دافئًا يغنيها عن كل فقد. تزوجت وأنجبت ابنة، غير أن زواجها لم يكتمل لأسباب خاصة.
بعد ثورة فبراير التي حلم الليبيون أن تكون بداية التغيير، دخلت البلاد في فوضى عارمة.
“أخي الوحيد، سندي في الحياة، كان من أوائل ضحايا انتشار السلاح عام 2013. حين فقدته شعرت أني فقدت أبي وأمي معًا، شعور لا أريده حتى لأعدائي.”
هل يمكن للحياة أن تنزع منك كل سندٍ وتتركك واقفة دون أن تهوي؟
من امرأة ناجحة إلى سجينة الاكتئاب.
كانت ع.ع.أ تعيش حياة مستقرة. حاصلة على شهادة جامعية، وتدريب دبلوماسي خاص، وضمن أوائل دفعتها. اشتغلت 15 عامًا في وزارة مهمة بليبيا، حظيت خلالها باحترام الجميع.
لكن الأوضاع الأمنية المتدهورة والتهديدات بالخطف أو القتل دفعتها إلى حالة اكتئاب شديدة، تقول: “لكل إنسان حد أقصى من الصبر. مرضي النفسي دمر كل شيء، عملي، علاقاتي، حتى روحي.”
كيف يشعر إنسان فقد حلمه الذي بناه طوبة طوبة؟ وكيف يجد نفسه فجأة بلا شيء؟
قرار الهروب، القارب الذي لم يصل.
مع اجتياح الحرب طرابلس وتهجير أسرتها عام 2020، قررت ع.ع.أ الهجرة مع ابنتها عبر البحر.
“في اليوم المقرر لم أصل إلى القارب. كأنه القدر يقول لي ليس هذا الطريق. فحجزت أول طائرة إلى تونس الخضراء، علّها تكون منفذي لأحلامي وطموحاتي المكسورة.”
هل كان عدم وصولها إلى القارب رحمة خفية أم تأجيلًا لمعاناة من نوع آخر؟
مستشفى الرازي، حين ينهار الجسد والعقل.
في تونس، لاحظ موظف بمنظمة الهجرة أنها ليست بخير، فحولها إلى مستشفى الرازي للأمراض النفسية.
مكثت فيه عشرة أيام لتشخيص حالتها: انفصام الشخصية مع اكتئاب شديد، نتيجة الصدمات والحروب وفقدان أخيها.
“ابنتي بقيت عند عائلة ليبية طوال فترة علاجي. بعدها سجلتها في مدرسة تونسية، لم أكن أريدها أن تتوه مثلي.”
أية مشاعر كانت تختلج قلب أم لا تستطيع احتضان ابنتها وهي بين جدران مستشفى نفسي؟
العمل عبر الإنترنت، والبحث عن الخبز بكرامة.
ولأنها لم تجد مصدر دخل ثابت، بدأت العمل عن بعد مع شاب تونسي، تنشر إعلانات إيجار الشقق لتؤمن مصاريفها ومصاريف ابنتها.
قصة الأم الليبية ع.ع.أ، رغم وجعها وقسوتها، ليست سوى واحدة من آلاف القصص الغائبة خلف أبواب البيوت المغلقة والمخيمات والمنافي.
نساء كثيرات يحملن وجوهًا مختلفة وأسماء متنوعة، لكن يجمعهن وجع واحد: الرحيل القسري عن الوطن بحثًا عن حياة كريمة، دواء مفقود، أو ملاذ آمن لأطفالهن.
تتساءل ع.ع.أ في نهاية حديثها:
“ماذا ينتظرني مستقبلًا؟
ومتى يستعيد الوطن عافيته حتى لا تضطر أم مثلي إلى ترك كل شيء خلفها؟ ومتى يحتوي هذا البلد الغني بثرواته أبناءه ويصرف عليهم؟ وماذا عن مصير ابنتي الوحيدة؟ وهل سأعود يومًا لأحتضن وطني كما احتضنته يومًا؟“
هذه القصة لن تكون الأخيرة،
في فسانيا سنواصل فتح هذا الملف الإنساني لننقل للعالم حكايات أمهات ليبيات فررن من بلادهن لا بحثًا عن الثراء أو الرفاه، بل طلبًا للحياة ذاتها، وللكرامة فقط.”كنت أعمل بكرامة لأوفر لها الطعام والدواء والتعليم.”
أليس من حق كل أم أن تعمل بكرامة في وطنها دون خوف أو إذلال؟
رحلة إعادة التوطين، من تونس إلى أمريكا.
حين عُرض ملفها لإعادة التوطين في الولايات المتحدة، قُبل مباشرة لظروفها الصحية وكونها امرأة وحيدة بلا حماية في بلد مضيف يعاني أزمات بدوره.
“في خريف 2024 وصلت إلى أمريكا، حولوني فورًا إلى المستشفى وتم إعفائي من العمل.”
هل كانت أمريكا حلًا لمشاكلها أم بداية لأسئلة جديدة عن الغربة والهوية والاندماج؟
ابنتها، أملها الأخير.
سجلت ابنتها في المدرسة الأمريكية. “كانت قد تعلمت الإنجليزية عبر اليوتيوب أثناء وجودنا في تونس، ما سهل عليها الدراسة.
كل ما أريده الآن أن تصبح أفضل مني بألف مرة.”
الشكر لمن يستحقه.
لا تنسى ع.ع.أ فضل العائلة الليبية التي ساندتها في تونس.
“كانوا جيراني، لكنهم صاروا أهلي. خففوا عني ألم الغربة ومعاناة الحياة. لن أنسى فضلهم مادمت حية.”
اليأس والأمل، تساؤلات بلا إجابة.
تختتم ع.ع.أ قصتها بنبرة يغلفها الحزن واليقين بالله: “فقدت عملي، بيتي، سيارتي، وكل طموحاتي أصبحت رمادًا. انطفأ شغفي بالحياة، ولم يعد فيها ما يستحق أن أكافح لأجله سوى ابنتي.”
وتتساءل بمرارة: ماذا ينتظرني مستقبلًا؟ متى يستعيد الوطن عافيته، حتى لا تضطر أم سوهان أو أم ع.ع.أ أو آلاف غيرهن للهروب منه؟ متى يحتوي هذا البلد الغني بثرواته أبناءه ويصرف عليهم؟ وماذا عن مصير ابنتي الوحيدة؟وهل سأعود يومًا لأحتضن وطني كما احتضنته يومًا؟
خاتمة:
قصة الأم الليبية ع.ع.أ، رغم وجعها وقسوتها، ليست سوى واحدة من آلاف القصص الغائبة خلف أبواب البيوت المغلقة والمخيمات والمنافي.
نساء كثيرات يحملن وجوهًا مختلفة وأسماء متنوعة، لكن يجمعهن وجع واحد: الرحيل القسري عن الوطن بحثًا عن حياة كريمة، دواء مفقود، أو ملاذ آمن لأطفالهن.
تتساءل ع.ع.أ في نهاية حديثها:
“ماذا ينتظرني مستقبلًا؟
ومتى يستعيد الوطن عافيته حتى لا تضطر أم مثلي إلى ترك كل شيء خلفها؟
ومتى يحتوي هذا البلد الغني بثرواته أبناءه ويصرف عليهم؟
وماذا عن مصير ابنتي الوحيدة؟
وهل سأعود يومًا لأحتضن وطني كما احتضنته يومًا؟“
هذه القصة لن تكون الأخيرة…

في فسانيا سنواصل فتح هذا الملف الإنساني لننقل للعالم حكايات أمهات ليبيات فررن من بلادهن لا بحثًا عن الثراء أو الرفاه، بل طلبًا للحياة ذاتها، وللكرامة فقط.














